ديبلوماسية الفاتيكان الهادئة… ليست هادئة

جوني منيّر- الجمهورية

سَلّم الجميع بأنّ الانتظار سيكون سيّد الموقف طوال شهر آب، وانّ الحركة الجدية حول الملف الرئاسي من المفترض ان تعود في شهر ايلول المقبل. وهذا الامر ليس بغريب، طالما انّ اللبنانيين أقفلوا كل طرق الحلول الداخلية وجلسوا ينتظرون حلول الخارج. وطالما ان شهر آب هو شهر الاجازات السنوية على المستوى العالمي، فإنه من المنطقي الاعتقاد بأن الحركة الخارجية حول الملف اللبناني لن تعود قبل شهر أيلول.

أضِف الى ذلك انّ مهمة المبعوث الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان من المفترض ان تنتهي في شهر ايلول، مع دعوته للحوار الذي لا تبدو إشاراته مُشجّعة حتى الآن، او على الاقل توحي بنتيجة يُؤمَل منها. لكنّ الاعتقاد بأن الحركة الدولية ستتوقف او تتراجع، مع «أفول» مهمة لودريان هو اعتقاد خاطئ، ذلك ان ثمة تحضيرات تجري في الكواليس لحركة دولية قوية في ايلول ويُراد لها ان تكون منتجة. ومن السذاجة الاعتقاد بأنّ الاجتماع الخماسي الذي عقد في الدوحة مؤخراً كان لزوم ما لا يلزم، لا بل على العكس فهو جاء على ما يبدو في اطار مَسار، والهدف منه تحديد السقف الدولي المطلوب للبنان بشكل واضح وحازم، على ان يجري التحرك لاحقاً وفق البنود الواردة فيه. وقد يكون جاء لإعادة تصحيح المسار المطلوب بعد الانطباع الخاطئ الذي وَلّدته المبادرة الفرنسية. ويُروى في الاروقة الديبلوماسية انّ لودريان، وخلال وجوده في السعودية قبل توجّهه الى الدوحة للمشاركة في الاجتماع الخماسي، أجرى نقاشاً واضحاً مع القيادة السعودية وسمعَ منها موقفاً اكثر وضوحاً من السابق ولا يَحتمِل الكثير من التأويل وهذا ما جعل موقف فرنسا في اجتماع الدوحة مختلفاً عن موقفها في الاجتماع الاول والذي كان قد عُقِد في باريس.

وفي الدوحة جاء البيان واضحاً وكذلك النقاشات حول الطاولة، والتي جرى تسريب بعض مضامينها الى القوى اللبنانية الاساسية وفي طليعتها «حزب الله»، الذي لم يكن مرتاحاً لها ولا للبيان الذي صدر. والاهم تلك النقاشات الثنائية التي حصلت في الاروقة المجاورة. والرسائل التي ارادتها القوى المشاركة بأن المشاكل الكثيرة التي تلهب الشرق الاوسط لن تدفع بعواصم هذه الدول الى ترك لبنان لمصيره، وان هنالك قراراً دولياً بإعادة لبنان الى المسار الدولي الطبيعي من خلال اعادة بناء سلطة مستقلة وعلى اسس صحيحة وبعيدة عن الاصطفافات الاقليمية وقادرة على اعادة احياء الثقة الدولية والداخلية بها.

وثمة طرف دولي لم يكن موجودا حول الطاولة، ولكنه كان احد اكثر المُحرّكين لعدم اهمال ملف لبنان. وهذا الطرف هو الفاتيكان الذي اشتُهِر بحركته الديبلوماسية الصامتة ولكن الفاعلة، والذي يضع لبنان في اولويات اهتماماته الخارجية، وهو ما عبّر عنه امين سر دولة الفاتيكان لزواره اللبنانيين قائلاً: هذه المرة لن نتعب من لبنان مهما حصل.

والمعروف عن الكاردينال بارولين اطلاعه العميق بالملف اللبناني، وبأنه مكلّف من البابا بمهمة انقاذ لبنان مهما كان الثمن.

وخلال المرحلة الاخيرة كان واضحاً لزوار الكرسي الرسولي استياءه الشديد من الطبقة السياسية اللبنانية، خصوصاً المسيحيين منهم، ولسان حاله الدائم بأن الدمار يحل بوطنهم والخطر الكبير يهدد استمرار وجود بلدهم، في الوقت الذي لا يفكر هؤلاء سوى بأنانيتهم ومصالحهم الشخصية والخاصة.

كذلك شعر البعض باستياء فاتيكاني من الادارة الفرنسية بسبب مبادرتها السابقة، والتي جرى وصفها بأنها لم تكن واقعية وسليمة. وهذا الكلام سمعه البطريرك الماروني حين طُلب منه زيارة الفاتيكان في طريقه للقاء الرئيس الفرنسي في اواخر شهر ايار الماضي، كما سمعته باريس بشكل مباشر من الفاتيكان.

وبعد جلسة الانتخاب الاخيرة اصبحت الامور اكثر وضوحاً ومع قرار فاتيكاني بعدم الانتظار اكثر.

وفي وقت طُرحت فيه فكرة ان يزور المبعوث الرئاسي الفرنسي لودريان الفاتيكان لوضع كبار المسؤولين فيه، لا سيما الكاردينال بيترو بارولين، في حصيلة مهمته اللبنانية والاستنتاجات الفعلية التي خرج بها، يجري التحضير بهدوء لإنضاج اقتراح يقضي بعقد اجتماع ثلاثي اميركي – فرنسي – فاتيكاني في الثلث الاخير من شهر ايلول المقبل.

وجرى التفاهم حتى الآن على ان يُعقد الاجتماع في الفاتيكان ويشارك فيه بارولين اضافة الى ايمانويل بون عن الرئيس الفرنسي ومساعدة وزير الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الاوسط باربرا ليف.

لكن مشاركة ليف لم تحسم بعد بشكل نهائي، اذ انّ هنالك من يقترح ان يشارك ممثل كبير عن مجلس الامن القومي الاميركي ما سيعطي اشارة تنفيذية اميركية اقوى.

وهذا الاجتماع الثلاثي سيبحث بملفات عدة مثل الحرب في اوكرانيا وتداعياتها على اوروبا، وسيكون الملف اللبناني في طليعة الملفات وهو ما يحرص عليه الفاتيكان في التحضيرات الجارية للاجتماع. وسيتولى الفاتيكان ايضاً مهمة الدخول بشكل مباشر على خط الازمة اللبنانية، خصوصاً باتجاه النخَب المسيحية التي «لا تبحث سوى عن مصالحها الذاتية والشخصية».

وسيَحثّ الفاتيكان بكركي على ضرورة القيام بخطوات أكبر وتحفيز الحركة المطلوبة وعدم الاكتفاء بسلوك «ردّات الفعل». وقبل ذلك ثمّة حركة أكبر وأفعَل ستظهر من واشنطن. ذلك انّ هنالك توجّهاً لدى لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس لإصدار موقف متقدم بحق معطلي الانتخابات الرئاسية، على ان يتبنّاه الكونغرس كقرار صادر عنه. على ان يتضمن انزال عواقب ملموسة بهؤلاء والذهاب لانتخاب رئيس يتوافق مع المواصفات الموضوعة وقادر على ان يقوم بالاصلاحات المطلوبة. وهذا ما يوحي بأنّ الموقف الاميركي سيكون اكثر توغّلاً في ملف الازمة اللبنانية.

ووفق ما تسرّب عن اجتماع الدوحة، فإنّ المشاركين لمسوا اندفاعاً اميركياً اكبر، خصوصاً خلال اللقاءات الثنائية والجانبية التي حصلت. ووصل الى مسامع القوى السياسية في بيروت أنّ هنالك تعويلاً دولياً حازماً وحاسماً على دور الجيش اللبناني في المرحلة المقبلة.

وفي الوقت عينه بَدا واضحاً خروج السعودية من دائرة التردد في الملف اللبناني والبدء بتوجيه اشارات حسية كمثل دعوة السفير البخاري للنواب السنة. والرسالة واضحة هنا، بأنّ الاقتراع السني المقبل لن يكون مشابهاً للدورات السابقة، واعتقاد البعض بأنه قادر على التلاعب بالموقف السني هو اعتقاد ليس في محله. ولأنّ أصداء نقاشات اجتماع الدوحة، لا سيما اللقاءات الثنائية، وصلت الى العديد من الاطراف في بيروت، اندفعَ رئيس التيار الوطني الحر في انعطافته الثانية وعلى اساس قطع الطريق على وصول قائد الجيش العماد جوزف عون، بعدما اعتبر ان المبادرة الفرنسية تلقت ضربة قوية وانّ باريس نفسها لم تعد تطرحها.

ومن هنا انعطافته باتجاه «حزب الله» مع وَضع شروط يعرف سلفاً انّ الحزب لن يسير بها، الأمر الذي يعني انه اراد بتجديد انفتاحه على «حزب الله» استهلاك الوقت وصولاً الى مطلع السنة المقبلة موعد خروج العماد جوزف عون من قيادة الجيش، وفي الوقت نفسه ابقاء الطريق مقفلاً امام ترشيح فرنجية من خلال طرح شروط لن يسير بها الثنائي الشيعي.

لكن حزب الله، الذي تفاعلَ ايجاباً مع انعطافة باسيل، يدرك جيدا انّ هدفه الحقيقي حَرق الوقت لإقفال الطريق امام العماد عون ومن دون فتح الطريق امام فرنجية. لذلك فإن «حزب الله»، المُتوجِّس من بيان الدوحة والذي يستشعر الدينامية الجاري تحضيرها دولياً في ايلول، لمّحَ الى باسيل انّ الوقت ليس مفتوحاً، وانّ ما يطالب به سيُترك لما بعد انتخاب فرنجية، وإلا فإنه سيعتبر ان ما يحصل هو في اطار المناورة المعروفة اهدافها. وهو ضمناً يقول لباسيل ان عليه ان يختار بين فرنجية وعون من ضمن مهلة زمنية محددة وغير قابلة للتعديل. في الواقع باسيل يطمح لخيار آخر لكن هامش مناورته ليس واسعاً، لا بل على العكس، وسيلمس ذلك قريباً.

لذلك، فإنّ استرخاء آب سيتحوّل فجأة الى حماوة في ايلول. وكلما تقدم الوقت فإن هذه الحماوة قد تتحول الى عاصفة وبخلاف الصورة الاعلامية الهادئة لا بل المملة الآن، فإنّ أثماناً يجري التحضير لها. والهامش الضيق المُتاح الآن قد يتحول لأن يصبح مساحة قاتلة. أليس هذا ما حصل عام 1990؟ المشكلة اننا لا نَتّعِظ من دروس التاريخ.

Leave A Reply