عدد سكان لبنان “دون الخط الأحمر”

تجاوز لبنان “الخط الأحمر” المرتبط بتراجع أعداد السكان المقيمين في الداخل، لكن مكمن الخطورة نابع في إرجاع البعض ذلك إلى انخفاض الخصوبة وزيادة الهجرة وانخفاض وتراجع الإقدام على الزواج وتزايد عقود الطلاق، علاوة على ترسخ ثقافة “الحد الطوعي للنسل”، معطوفة على الأثر العميق للانهيار المالي والاقتصادي.

على شرفة منزلهما الصيفي، تجلس السيدة وداد وزوجها سامي بانتظار موعد الفيديو كول مع ابنهما الوحيد الذي هاجر العام الماضي إلى الولايات المتحدة من أجل العمل، والدراسات المعمقة في الطب، وكذلك ابنتهما التي هاجرت مع زوجها إلى السعودية من أجل الإقامة والعمل.

يعلمان أنه لن يعود إلى الاستقرار مجدداً في لبنان، ولذلك يحاولان إقناع الابن بالقدوم في زيارة صيفية أو في موسم أعياد الميلاد. يحاول الأبوان إشعار الشاب أن كل الأمور تمضي بخير، ولكن في المقابل يخفيان حالة الغربة والوحدة جراء ابتعاده وشقيقته عنهما.

تقول الأم إنها تحاول وزوجها تمضية الوقت، و”القيام بالروتين اليومي كالمشي وسقاية الزريعة، وري الشجيرات، ولكن لا يغني ذلك عن وجود العائلة مجتمعة، إلا أن العذر موجود، فهؤلاء ذهبوا لتأمين مستقبلهم، والحصول على الحد الأدنى من الخدمات، والحاجات الأساسية”.

تتكرر هذه التفاصيل في قصص المئات، لا بل الآلاف من الأهل في لبنان، وتحديداً من هاجر أبناؤهم لأسباب اقتصادية، أو حتى سياسية في ظل التدهور السريع للأوضاع في البلاد. ومن المتوقع مضاعفة هذه الظاهرة، في ظل الرغبة الشديدة في الهجرة من لبنان، وبحسب دراسة أعدتها دائرة الإحصاء المركزي في لبنان عام 2022، فإن 52.2 في المئة من اللبنانيين يرغبون بالهجرة.

ويحذر المتخصص اللبناني في شؤون الهجرة عباس طفيلي من خطورة هذا الرقم، لأنه يأتي في موازاة هجرة قرابة 400 ألف مواطن في ظل الأزمة، منبهاً إلى أن ربع الولادات المسجلة هي من المواليد في خارج لبنان.

يرى طفيلي أن “اللبنانيين الذين يقصدون البلاد حالياً إنما يعودون إليه ظرفياً من أجل لقاء أهاليهم والكبار في السن، وهذا عامل وجداني، بالتالي عند رحيلهم سينقطع هذا الرابط”. ويتخوف من تأثير هذه الأزمة خلال العقدين المقبلين، حيث “سنجد قرى شبه فارغة بسبب موجات الهجرة، ولا نجد فيها إلا بعض كبار السن”، مشيراً إلى أن “رغبة الهجرة مشتركة بين المواطنين والنازحين فهؤلاء ينتهزون أي فرصة للرحيل حتى لو كانت خطرة، كالذين هربوا بحراً”.

معطيات حذرة

تتخوف بعض الدراسات من تدهور أعداد المواطنين المقيمين في لبنان، ويأخذ هذا التراجع أشكالاً مختلفة، فمنها ما يتصل بمغادرة البلاد مع قرار بعدم العودة المبدئية، أو يرتبط بانخفاض أعداد الولادات في مقابل زيادة الوفيات في لبنان.

بحسب دراسة مؤسسة الدولية للمعلومات “شهدت الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2022 زيادة أعداد المهاجرين 232.8 في المئة على العام السابق له، وهذا الارتفاع الكبير مؤشر إلى مدى تردي الأوضاع في لبنان، وسعي المواطنين إلى السفر والهجرة هرباً من الواقع”.

ولاحظت دراسات المؤسسة نفسها انخفاض الولادات بشكل ملحوظ بدءاً من عام 2019، إذ تراجعت 30.2 في المئة، خلال الفترة من 2019 – 2021 في مقابل ازدياد مستمر في الوفيات. وعلى سبيل المثال ارتفعت الوفيات 21 في المئة من عام 2020 إلى 2021، في وقت تراجعت الولادات للفترة نفسها ثمانية في المئة.

عوامل متعددة

يشبه مدير مركز السكان والتنمية اللبناني علي فاعور المستقبل السكاني اللبناني بـ”القنبلة الزمنية الديموغرافية”، منطلقاً من مسح القوى العاملة الأخير لعام 2018، الذي أظهر تحولاً تمثل في تزايد أعداد كبار السن وانتشار ظاهرة التعمر (المعمرين)، وذلك في مقابل تراجع عدد صغار السن (دون 15 سنة)، إذ انخفض عدد الأطفال المقيمين في لبنان من أكثر من مليون طفل في عام 2004 إلى 814 ألف طفل عام 2018، أي بنسبة تراجع 20.5 في المئة.

في المقابل ارتفعت نسبة كبار السن من 282 ألفاً و249 خلال عام 2004 إلى 508 آلاف شخص في عام 2018، أي 80 في المئة، وهذه الشريحة آخذة بالتزايد.

يلاحظ فاعور زيادة كبيرة في حصة كبار السن من أصحاب الـ65 عاماً فما فوق. ففي عام 1970 كان يشكل هؤلاء 11 في المئة من عدد الأطفال، أما اليوم فباتوا 62.5 في المئة كمعدل وسطي في لبنان، محذراً من “تجاوز المسنين عدد الأطفال الصغار بمحافظة جبل لبنان ذات الغالبية المسيحية، ليبلغ 116.5 في المئة، كما يصل إلى 90 في المئة بالمناطق الحضرية كمحافظة بيروت، ثم 61 في المئة بالبقاع”.

في مقابل ذلك تنخفض نسبة كبار السن إلى أدنى مستوياتها في المناطق ذات الغالبية المسلمة، إذ تمثل في عكار 25 في المئة، وبعلبك الهرمل 34 في المئة، بحسب فاعور، الذي يتحدث عن ارتفاع نسبة كبار السن من مجموع السكان، فبعد أن كانت تشكل أقل من 7.4 في المئة عام 2004 أصبحت أكثر من 13 في المئة عام 2018، فيما انخفضت نسبة صغار السن من 28 في المئة إلى 21 في المئة خلال المدة عينها.

ويلاحظ أن الفئة العمرية الشابة التي تتراوح بين 20 و44 عاماً أصبحت تشكل أكثر من ثلث المجتمع اللبناني، فيما تشكل هذه الفئة لدى المهاجرين نحو 80 في المئة، مما يحمل دلالات مستقبلية خطرة تتعلق بشيخوخة السكان المقيمين. فمنذ عام 1970 تضاعف عدد كبار السن خمسة أضعاف، فيما ارتفع عدد السكان مرة واحدة فقط، وقد بات لبنان الدولة الأكثر شيخوخة بين الدول العربية، وتتجه نحو الشيخوخة السريعة.

الخصوبة المنخفضة

يتطرق فاعور إلى تراجع الخصوبة لدى اللبنانيين، وكذلك تصنيف الأمم المتحدة للبنان على أنه “أسرع دولة في تناقص عدد السكان المقيمين، إذ تراجع من ستة ملايين و820 ألف نسمة خلال 2020، إلى خمسة ملايين ونصف المليون حالياً”، معزياً ذلك إلى “الهجرة الصافية” التي ظهرت بوادرها في 2015، وصولاً إلى مغادرة الكفاءات من القوى العاملة والمهارات كالأطباء والمهندسين وغيرهم.

ووفق دراسة “مسح القوى العاملة والأحوال المعيشية للأسر في لبنان”، الذي نفذته إدارة الإحصاء المركزي بالتعاون مع منظمة العمل الدولية والاتحاد الأوروبي في 2018، تبين أن متوسط عدد أفراد الأسرة اللبنانية قد انخفض بشكل لافت من 4.6 شخص في 2004 إلى 3.6 شخص عام 2018.

هنا يتخوف فاعور من أن “لبنان بات دون مستوى الإحلال لأن الخط الأحمر يشكل 2.2 طفل للمرأة الواحدة”، منبهاً إلى “انخفاض الخصوبة العامة، وبخاصة في أقضية جزين (3.3 طفل)، والبترون وكسروان وراشيا (3.4)، أما في المتن فقد بلغ (3.5)، ثم (3.4) بالعاصمة بيروت.

ببساطة تراجع معدل عدد الأطفال لكل امرأة من ستة صغار خلال ستينيات القرن الماضي، إلى 1.5 طفل في الوقت الحاضر، نتيجة التحولات الديموغرافية المتسارعة في البلاد منذ الحرب اللبنانية، فالأسر المكونة من شخصين باتت تشكل نحو ثلث مجموع الأسر اللبنانية.

ويرى مدير مركز السكان والتنمية اللبناني أن “الزيادة في أعداد المسلمين تكاد تنحصر في عكار وشمال لبنان، وهي ناجمة بشكل أساسي عن ارتفاع نسبة الولادات لدى السكان المجنسين عام 1994، الذين وصل عددهم اليوم بين 350 ألفاً و400 ألف”.

تحول ديموغرافي خطر

يعتقد علي فاعور أن “ما يعيشه لبنان هو نتيجة ما صنفه البنك الدولي بثاني أسوأ أزمة تمر بها دولة في التاريخ”، إضافة إلى أنه “البلد الأول من حيث نسبة اللاجئين مقارنة بعدد سكانه لأن عدد اللاجئين الموجودين في لبنان تجاوز مليوني شخص، وقد يصل إلى مليونين ونصف المليون شخص، بحسب بعض التقديرات أغلبيتهم من النازحين الاقتصاديين، مقابل أربعة ملايين و800 ألف مقيم في لبنان من ضمنهم 20 في المئة أجانب من دون حساب المخيمات السورية”، بحسب دائرة الإحصاء المركزي في 2018.

واختتم حديثه بقوله “منذ عام 2021 تجاوزت ولادات النازحين عدد اللبنانيين في تسعة أقضية، منها البقاع الغربي وراشيا والشوف وعكار والضنية”، وهذا ينذر بتصدعات ديموغرافية على مستوى لبنان، وقد يتفاقم ذلك مع رغبة ثلثي الشباب اللبناني في الهجرة نتيجة حالة اليأس.

بشير مصطفى صحافي – اندبندنت

Leave A Reply