الحب في زمن الكوليرا.. قراءة في الذاكرة

فتحية حسين الحداد 

ما الحبكة؟ وإن جسدت الرواية بناءً يقوم على وحدات، فلماذا لا تُشكل كل وحدة حبكة مستقلة تتصل بالسياق الأكبر من خلال مفاصل تضمن حركة السرد؟ «الحب في زمن الكوليرا» رواية تتيح للقارئ خلق تكوينات مصغرة أو باقات تحمل كل منها عنوانا مثل: عطور، زهور، ألوان، ذكريات وغيرها.

ترى كيف تعامل ماركيز مع الذاكرة. وكيف جعل منها مفصلاً في سرد يلتقي أو يلتحم فيه الحاضر بالماضي متحكما بمسألة التوقيت لحركة انسيابية بين الزمنين؟ في واحد من المواقف يقول السارد: «لا لن يكشف سر حبها (..) لن يكشفه أبداً، (..) ليس لأنه لا يريد فتح الصندوق الذي خبأ فيه سره بحرص خلال نصف حياة، وإنما لأنه أدرك حينئذ فقط أنه قد أضاع المفتاح». لقد ألقى لنا ماركيز بأول مفاتيحه في مسألة اثارة الذكريات، سواء في الواقع أو في فن الحكاية وتركيبها. يتطلب الأمر مفتاحاً أو آليةً تمكن الراوي من إثارة ذكرى معينة، لكن هل يكفي الحصول على المفتاح دون وجود الصندوق أو البيت والباب؟

في «الحب في زمن الكوليرا» نتعرف على فيرميناداثا التي نجد أنها تذهب إلى البيت الذي هجره الأب، والذي «منحها ملجأ خاصا بديلاً للاختناق في القصر العائلي. فكانت ما أن تفلت من الأنظار العامة حتى تمضي إليه (..) كانت تمضي هناك ساعات كأم عزباء، مستحضرة ذكريات الطفولة التي مازالت في ذاكرتها. أعادت شراء الغربان العطرة (..) أعادت فتح حجرة الخياطة حيث رآها فلورينتينو أريثا أول مرة، (..) وحولتها إلى هيكل مقدس لذكريات الماضي». أخذنا ماركيز أو بالأحرى وجه فيرميناداثا ناحية «البيت المهجور» جاعلا حالة «الاختناق في القصر» محفزا لها بعد أن دفع لها بمفتاح صاغته «ذكريات الطفولة التي ما زالت في ذاكرتها».

ذاكرة الصندوق المهمل

لفترة، تميزت فيرميناداثا عن غيرها بذاكرتها الحاضرة، بينما عجز آخرون عن متعة استعادة تفاصيل تضفي على الإنسان بعض السعادة. سعت فيرمينادثا إلى احياء ذكرياتها عندما استدلت على البيت المهجور الذي كان بمنزلة صندوق مهمل. نظرت في الحجرات فكانت نموذجاً مختلفاً عن الذي «أضاع مفاتيحه»، وكان تفاعلها مع المكان وإعادة تأثيثه بـ«شراء الغربان» تجسيداً للمفعول الذهني والنفسي وتوظيفه في تجديد الذكريات. في المقابل، نجد أن محفز الذكريات قد يكون طارئا ولا تتدخل فيه الإرادة كالذي نصادفه في المشهد التالي: «التقيا أخيرا في قمرة سفينة كان يجري اصلاحها وطلاؤها (..) كانت القمرة منزوعة الطلاء، وقد أعيد طلاء نصفها ‏تقريباً، وكانت رائحة التربنتين ملائمة للاحتفاظ بها كذكرى من مس لطيف»، جعل ماركيز طلاء السفينة مادة لتكثيف لقاء ارتبط برائحة لا يمكن تفاديها وتجنب أثرها على تحفيز ذاكرة ستبقى رطبة إلى أجل يصعب تحديده.

في «زمن الكوليرا» نجد الحب من خلال ذكريات نجرؤ على مواجهتها أحيانا، نتجاهلها ونصد عنها في مرات، لكننا قد نعجز عن مقاومتها كما حدث مع فلورينتينو عندما «وجد نفسه، يوم رؤيته طيور السنونو على أسلاك النور، يسترجع ماضيه منذ أقدم ذكرياته. استرجع ذكـرى غرامياته العارضة، ‏والعثرات الكثيرة التي كان عليه اجتيازها».

لوحة تتضارب ألوانها

لم يكن في رواية «الحب في زمن الكوليرا» حبكة واحدة، فمن ينظر إلى التفاصيل يخرج بعدة حبكات فرعية قاطفا الورود والزهور لوضعها في خانة واحدة تشكل باقة أو حبكة بذاتها، رافعاً الأصباغ لرسم لوحة تتضارب ألوانها أو تنتظم كقوس قزح، أو مسحوراً بزاوية ذكريات شكلت في مجموعها حبكة مستقلة تشترك مع البناء العام للرواية وتنفرد أيضا بتفاصيل تشييدها.

السرد في الرواية أشبه ببناء خلية نحل، وماركيز جعل الذكريات في وعاء أقرب إلى شرنقة تقع في بيئة فتحيا أو تموت، وهو ما نستشفه حينما قارن بين مكانين: «أجل. ثلاثون سنة مرت على فيرميناداثا، بالنسبة لها أسعد سنوات حياتها. كانت أيام الرعب في قصر كاسالدويرو قد أهملت في مزبلة الذاكرة».

المصدر:القبس

Leave A Reply