نزار قبّاني الذي تدرّج أنثويًّا في موته

نبيل مملوك –

جميع الصور التي نراها لنزار قبّاني (1923-1998) على محرّك البحث الأغرّ “غوغل” تشعرنا أنّه ما زال على قيد أو لا يزال يمتهن البحث عن مقعدٍ ملائم له في حيواتنا المعقّدة، فالشاعر الدمشقيّ الذي اختلف على شعره الكثيرين واتّفقت معظم النّساء على سحر أسطره قد بدأ بالسير تدريجيًّا نحو موته منذ إصداره الأوّل “قالت لي السمراء” وصولاً إلى” أبجديّة الياسمين ” التي قيل أنّ معظمها كتب على علب الأدوية …عشيّة ذكرى وفاته، وفي ظلّ ما حلّ في العالم العربيّ الذي انتفخت قلب الشاعر ورمًا جرّاء مشاكله ونكساته وانهيارات شرائحه مجتمعيًّا …يسعى المتلقّي إلى قراءة أعماله لكنّه يجدها تموت حين يتجاوز مرحلة البراءة ليبحث عن شعرٍ آخر يمجّد خسارته كتمجيد أبي العلاء المعرّي للمحاولة أو محمود درويش للمرض”هزمتك يا موت الفنون جميعها”…فلماذا هذا النزوح ؟ وكيف تدرّج الشاعر نحو موته؟

من مجموعته الشعريّة الأولى ونزار يرفع اللافتة أمام الموت، حيث بدا عكس التلقّي الأوّل لمحتواها مسالمًا يرفع الراية البيضاء بوجه الشّعر يكاتب الموت باللغة العروضيّة الكلاسيكيّة، يفضح الجسد ومفاتنه ليقول للموت :”أنا أشاركك رؤية بما لا نراه عادةً” يلعب مع الدّين لعبة البيضة والحجر ” ومتى تدركين أنّكِ أنثى /بين نهديكِ يؤمن الإلحاد” لم تكن المرأة هاجسه إلّا حين حكي عنها في شعره، لو كانت العين النّقدية قد التقطتْ الجرأة أو الثورة دون تأنيث لما تورّط الشاعر بالتوغل أكثر في جسد المرأة ولما صعدتْ قصيدته إلى مرتبة الأغنية وحفظها العشّاق وردّدتها العاشقات الوحيدات في غرفهن…ويشكّل هذا التحدّي اللاوعي للشاعر الفرد لمجموع النقّاد الذين انقسموا بطبيعة الحال بين مرحّب وبين متوجّس خائف من هذا الخروج عن الشكل والهيئة رغبة كبرى بكشف كلّ أسلحته…وكلّ الثمار التي لم يحن قطافها مواسيًا نفسه في مجموعته “قصائد مغضوب عليها”: لاشيء يحمينا من الموت سوى المرأة والكتابة” ولا جرم أنّ قبّاني يعرف أن الموت لا سلطة تردعه فالمرأة نفسها مفهومًا واصطلاحًا صارت عرضة للموت خصوصًا بعد تراكم القضايا وتقدّم حركة الشعر مع بروز القصيدة بالنثر التي جبلت لفظة المرأة بمكوّنات ميتافيزيقيّة “تجربة أنسي الحاج باستثناء الرسولة بشعرها الطويل أنموذجًا” وسرياليّة أحيانًا أخرى “تجربة شوقي أبي شقرا وبول شاوول” وطبعًا عبثيّة ” الماغوط وأدونيس اللذين ذكرا المرأة بشكل عابر” أمّا الكتابة وهي الفعل الإنساني المنبثق من الفرد الذي هو عرضة للموت فلن تتحوّل إلا لعارضٍ حياتيّ أوهم نزار وسواه بعمر أطول

خاصةً وأنّه أيقن في أيّامه الأخيرة أنّ قصائده الأولى التي لم تتخذ العقل مركزًا لها صارت ممنوعة على النفوس لا من الرقابات المارقة فحسب بل من الأفراد المنهمكين في عواطفهم بعد نكسة ال67 وحرب لبنان الأهليّة واجتياح ال 82…كلّ أشكال الموت هذه قضمت من جرة العمر لدى نزار لكنّ موت بلقيس الرّاوي زوجته التي أحبّ جعله يعانق الموت مباشرة وينعى الأنثى التي وجدها حين خطفها الغياب “كيف أخذت أيامي .. وأحلامي وألغيت الحدائق والفصول” كلّ القصائد التي كتبت قبل بلقيس كانت استعدادًا للموت فالمرأة عنده حافظت على جسدها وغيّرت وجوهها وطبائعها وقفزت من الأندلس الى الشام وبيروت بلغة لا يتقنها سوى الأطفال حيث صارت عبئًا عليه حين يسمع سواه يتكلّم عليها وأغنية لذاته حين يكتب قصائده ويشكّلها بالتفعيلات التي زاحت عن السطر والرويّ وحرّكت خصر القافية…

والحقّ أنّ هذه الحيرة والزئبقيّة في تصنيف هذا الرجل الشاميّ الذي قضى في لندن آخر أيّام خريفه لم تمنعه من التعبير عن نفسه في قصائده الأخيرة التي عاد من خلالها اجترار تجربته الأولى خصوصًا في تنويعات نزاريّة على مقام العشق” و”أبجديّة الياسمين ” التي جعلته يهوى الجلوس ويقلّل من المشي ورفض بشحوب تصفّح المهجر ليرى جديده وقديمه، ويلجأ بحسب البعض لمراسلة بيروت عبر مكالمات عبثيّة يجريها مع هاتفه في بيته هناك…

استسلم للموت وبقيت قصائده في محطّاته الأولى …حيث اللهب والشهوة ومكاشفة غرائز الدين وعواطف الدنيا بعد الخوض في معترك السياسة…

لم ينطق نصّ نزار قبّاني طويلاً…استمرّ بلعبة الصمت والحكي خصوصًا حين لجأ الى السياسة وقبلها لاستفزاز الدينيين في خبز وحشيش وقمر…وها هو اليوم يلقي من شرفة الهناك على قصائده ويعلم أنّ الشاب العشيريني الذي يقرأها الآن سينساها حين يمتهن التدخين أو مداعبة الأجساد الحقيقيّة للنساء…

Leave A Reply