المسرح اللبناني والعربي بين تقليد الأصل وتجسيد آلام المجتمع

نبيل مملوك-

لم يكن المسرح يومًا مجرّد خشبة وستارة وتصفيق يعلو ويخفت تبعًا لحدّة النص وقدرة تأثيرته على الجمهور فالجدليّة القائمة حول تعريفه كشكل أدبيّ من جهة وكفنّ قائم بحدّ ذاته من جهة ثانية جعلته محطّ أنظار المفكّرين والمتلقّين في آن، وما اختلاف النظرة تجاه هذا الفنّ بدءًا بشكسبير الذي عرّف الحياة أو الدنيا على أنّها مسرح كبير لتتبعه فيما بعد نظرة المفكّر والروائي الليبي إبراهيم الكوني على أن المسرح حياة/دنيا إلّا دليل على استعصاء الوصول الى تعريف أو تصنيف نهائي لهذا الكيان الحركيّ الغنائيّ أحيانًا، وإزاء ارتباطه على مدى قرون وعقود بالإنسان وقضاياه تبرز الإشكاليّة من خلال تخصيص الكلام حول المسرح اللبناني الراهن خصوصًا والعربي عمومًا على الشكل التالي: كيف يعبّر المسرح اللبناني عن القضايا الإجتماعية الراهنة والملحّة؟ ومن هم الذي يترددون إلى هذا العالم في ظلّ الأزمات المعيشيّة والإقتصاديّة؟ وإلى أي حدّ يعبّر المسرح اللبناني عن المزيج القائم بين استنباط الأفكار النصيّة من مسارح الماضي ومسرحيّاته ؟

نحاول في هذا التحقيق مقاربة هذه الإشكاليّات وتحصيل الإجابات عنها من منظارين الأول محض أكاديمي نقديّ والثاني تمثيلي تطبيقي…

المسرح أكاديميًا :” بين فقدان الهويّة وتشتّت الجمهور”

تبدأ الأكاديميّة والممثّلة المسرحيّة ريتا باروتا حديثها عن تعدّد المسارح في لبنان وبالتالي تعدّد الطبقات باختلافها وتفاوتها…وبالتالي تظهر التوجّهات والخطوط المسرحيّة منها المسرح التجديدي والفكاهي اللطيف وهناك محاولات من قبل أشخاص مسرحيّين لخلق مكانهم الخاص أوالعثور على توجّههم المسرحي الملائم وتشير باروتا إلى أنّ الحركة المسرحيّة في لبنان خلال الأشهر الستة المنصرمة كانت خافتة إلى شبه معدمة إلى أن ظهرت وبشكل مفاجىء حركة مسرحيّة مختلفة ممّا أعاد النبض لهذا القطاع دون أي تبرير، والمعضلة بحسب باروتا والتي تؤثّر على الطبقات الإجتماعيّة وتنوع تلك التي تتردّد الى المسرح هو سعر البطاقة المسرحيّة خصوصًا في الأوضاع الإقتصاديّة الراهنة التي تسببت بمسح الطبقات وفرض مبدأ القدرة الشرائيّة أو عدم توفّرها لدى الفرد وقد يصل سعر البطاقة الى 10$ ممّا يمنع الكثير من الناس من مختلف الطبقات من التردد إلى المسارح، لكن رغم كلّ ذلك لكلّ مدرسة مسرحيّة روّاد محددين مثل مسرح يحيى جابر ومسرح جوزيان بولس الأقرب الى الفرونكفونيّة وهما مستمرّان بعطائهما رغم كل الصعوبات.

لكن هناك العديد من الطاقات الشبابيّة لا تأخذ حقّها رغم جهودها الجبّارة

وفيما يتعلق بتجسيد القضايا الإجتماعيّة ترى باروتّا أنّنا نفقد الرؤية النقديّة للمسرحيّات وهذا ما يحول أحيانًا دون أن نحدّد الى أي مدى الأعمال المسرحيّة هي مرايا تعكس حال الناس وآلامهم خاصة أنّ البعض يذهب الى المجاملة في هذه الأزمة الراهنة.

وعن الشأن الجامعي فإنّ الجيل الجامعي الراهن غير مكترث بالمسرح أو البحث عن مداخل لدراسة القضايا التي يطرحها رغم أنّ الطلاب الذين احتك معهم صفيًّا ينتمون بمعظمهم الى طبقات اجتماعيّة جيّدة.

في المقابل ترى الأكاديميّة والباحثة نجوى قندقجي أن المشكلة تكمن في المسرح العربي ككلّ وليس المسرح اللبناني فقط وتعود الى تسعينيات القرن الماضي حيث ما زال يبحث عن هويّته الخاصة وهو يحاول بحسب قندقجي أن يكون جزءًا من حياة الناس اليوميّة وللأسف أصبح المسرح حاجة كماليّة بعيدة عن ثقافتنا عكس الأغاني والتلفزيون والسينما وبالتالي جزءًا عضويًّا خاصّة إذا تحدثنا عن مسرح غير تجاري فهو بحاجة الى دعم كي لا يموت خاصّة أننا نعيش في عصر التيك توك والمادّة الترفيهيّة…فضلاً عن ذلك نحتاج الى هيئة دعم حكوميّة تساهم في حلّ مشكلة كل مسرح من مسارح الوطن العربي وهذا لا يعني أنّه لا يوجد تجارب تحاول أنها ثبت نفسها ففي سوريا مثلا أثر الحرب ما زال يؤثر وفي مصر يطغى الطابع الكوميدي على الأشكال الأخرى أمّا في الأردن فهناك طاقات شبابيّة في مسرح الشمس محدودة لكنها موجودة وعن العراق تقول قندقجي أنه يتعافى خصوصًا مع مهرجان بغداد ممّا يعطيه فرصة لاحتلال مساحة أكبر.

أمّا لبنان فالوضع المسرحي مختلف خاصّة أنّه في ظل الإقتتال الطائفي والأزمات المختلفة فهو موطن الحريّات انطلاقًا من تاريخه الفنّي والأدبي المعروف.

والمسرح اللبناني يتكىء على ذاته وهناك تجارب تحاول اثبات نفسها مثل مسرح مونو ومسرح رندا الأسمر وغيرها لكنّها لا تلبّي حاجات المجتمع اللبناني…

وتختم قندقجي أن المسرح العربي عمومًا مشكلته الكبرى ارتباطه بالأدب وتخبطه بين الفصحى والعاميّة المعاصرة الأقرب الى الناس وحياتهم اليوميّة ولكن الأزمات لم تقضِ على حركة المسرح والدليل الأعمال المتتالية التي تجسد تباعًا على خشبات المسارح المختلفة.

الميادين البديلة و الإقبال على المسارح

وفي الميدان التمثيلي النظرة مختلفة، تؤكّد الممثلة المسرحيّة اللبنانيّة يارا زخّور من خلال تجاربها الأخيرة أنّ الجمهور اللبناني تحديدًا يجد في الأعمال المسرحيّة ما يعبّر عن يوميّاته وعن قضايا مجتمعه الرّاهنة فمسرحيّة “ورد وياسمين” التي عرضت مؤخّرًا على مسرح مونو تطرقنا فيها وفقًا لزخّور إلى عدّة قضايا منها العنف ضدّ المرأة ، الأوضاع الإقتصاديّة المزرية، علاقة الأبناء بآبائهم، التنمر وغيرها من القضايا، أمّا مسرحيّة شي متل الكذب التي جسّدتها أنا وآدون خوري وهي من تأليف الشاعر القدير الراحل موريس عوّاد فهي تتطرّق الى الوضع الاقتصادي الصعب رغم أن النص كتب أواخر السبعينيات وهي نصّ إشكالي يحث على التفكير بأزمتنا كشعب.

وهناك العديد من التجارب تأخذ بعين الإعتبار هروب الأشخاص من واقعهم ولهذا المسرح الترفيهي البعيد عن الواقع جمهوره الخاص ورغم ذلك تعتبر زخّور ان المسرح يجب أن يكون مفتوحًا ومنفتحًا على الجميع، وما يميّز الجمهور اللبناني أنّه يتفاعل بوعي مع المادّة المسرحيّة العميقة التي ترتبط بذكاء الممثل المسرحي واختياره للنصوص.

وعن الفئة التي تتردّد الى المسرح اللبناني مؤخّرًا ، ترى زخوّر أن الناس متعطّشة للمسرح خصوصًا بعد كورونا والأزمات المتلاحقة التي أوقفت الحركة المسرحيّة وبالتالي الطبقات التي تتردّد وتلتحق بالقاعات الجماهيرية مختلفة ومتنوعة اجتماعيًا وثقافيًّا واقتصاديًّا.

وهناك اسعار انطلاقا من الاعمال التي شاركت بها بطاقات تراعي كل الفئات وخصوصًا الطلاب .

وتختتم زخّور أن هناك تفاوت عمري بين الجمهور المسرحي من الشباب الى الشيوخ والاقبال كبير على المسرح اللبناني خصوصًا مونو بحسب زخّور.

ومن جهة مغايرة، يرى المسرحي والباحث خليل حاج علي أن المسرح اللبناني صار محصورًا بالذين يملكون المال و المسرح في هذه الفترة يمر بفترة دقيقة للغاية، نتيجة الشح بالتمويل وصعوبة الإنتاج. المسرح حالياً يقاوم للاستمرار، والعاملات والعاملون في هذا المجال، يكافحون لتقديم ما لديهم. وعليه، فإن المسرح، في وقت الأزمات عليه أن يكون فاعلا وحاضرا. ليس بالضروري أن يتناول المسرح فقط قضايا معيشية، آنية، بل عليه أن يكون مؤثرا في تغيير النمطيات، وأن يكون محركاً، يحث الناس على التغيير من خلال مساءلة الفضاء العام، وهدم السرديات، والإطباق على الأنظمة. النصوص التي تقدم في بيروت، متنوعة، منها الرديء، ومنها العميق.

وهناك تخوّف بحسب حاج علي من عدم ايجاد بدائل في ظلّ هذا الغلاء وحصر المسرح الذي يجب أن يكون للجميع.

يبقى الثابت الوحيد أن المسرح العربي واللبناني يتأرجح وفقًا للحال المجتمعي وأن القضايا التي تنتظرها النصوص والموضوعات المطروحة هي الرابط المتين بين الجمهور وخشبة المسرح…

وهنا يطرح السؤال إلى متى سينسى العقل العربي والحكومات العربيّة واللبنانية تحديدًا أن المسرح فنّ ورافعة فكريّة لطرح المتغيّرات أو الحث على نقاشات تذلّل العقبات الفاصلة بين شرائح المجتمع؟

  المصدر: “النهار

Leave A Reply