ملكة في المنفى… بين النار والرمضاء

كتب أحفادها على قبرها (نحبكِ يا جدتي صلي من أجلنا)

نازلي الملكة التي حملت ثلاثة ألقاب (السلطانة والملكة وصاحبة الجلالة الملكة الأم) التي تركت جحيم القصور لتنعم بالعيش في حرية، لكنها خسرت كل شيء ثروتها ومجوهراتها وابناءها، وعاشت اواخر أيامها في حي الفقراء في أمريكا، ودفنت هناك في مقابر الصدقة، هكذا عاشت (أم آخر ملوك المملكة المصرية).

كما يقول كريم ثابت في كتابه طلاق إمبراطورة (فنمت وأنا أقول لنفسي: لو عرف الناس أحوال القصور على حقيقتها). لا أحد يعرف أحوال القصور على حقيقتها إلا من سكنها، أو عمل داخلها، فالقصر وساكنوه دائماً في محل إثارة فضول العامة من الناس، لا أحد يتصور حجم المكائد والمؤامرات التي تحاك بين جدرانه، وكم الدموع والأحزان التي يعيشها سكانه.

في كتاب «ملكة في المنفى» سيرة الملكة نازلي أم آخر ملوك مصر (الملك فاروق الأول) تتناول الإعلامية والصحافية راوية راشد سيرة الملكة نازلي زوجة الملك فؤاد، وأم الملك فاروق والإمبراطورة فوزية (إمبراطورة إيران) والأمراء فايزة وفايقة وفتحية من سنوات المجد والصعود إلى سنوات الذل والهوان. هذه المرأة الجميلة التي اختارها السلطان فؤاد من بين جميع بنات البشوات والأسر العريقة حين وقعت عيناه على نازلي ابنة عبد الرحيم باشا صبري وزير الزراعة في حفل افتتاح (دار الأوبرا المصرية) وصمم على الزواج منها رغم إنه يكبرها بـ28 عاماً.

دخلت نازلي القصور وهي سلطانة وولادتها لولي العهد (الأمير فاروق) كانت المنقذ لها من دخول الحرملك السلطاني، وعند إعلان السلطان فؤاد استقلال مصر عن الدولة العثمانية عام 1922 أطلق على نفسه لقب الملك فؤاد وأصبحت نازلي (ملكة مصر). لم تكن حياة نازلي في قصر القبة جنة، رغم إنها دخلته سلطانة وملكة وأم ولي العهد لكونها كانت من عامة الشعب، لم تكن مرحبا بها من جميع أمراء أسرة محمد علي، فكل خطوة تخطوها كانت محسوبة عليها، إلى ان توفي الملك فؤاد وتولى ابنها فاروق الأول العرش لتصبح (صاحبة الجلالة الملكة الأم نازلي) ولقب صاحبة الجلالة له صلاحيات سياسية ومالية لم تكن نازلي تحملها.

فهل كانت تتوقع نازلي لحظة تتويجها بلقب صاحبة الجلالة الملكة الأم، إنها بعد سنوات ستخسر كل ثروتها وستدفن في مقابر الصدقة في أمريكا.

تفتح راوية راشد صندوق ذكريات أهم أعمدة العائلة المصرية الحاكمة وتقول: (في عام 1995 وأثناء إقامتي في مدينة لوس أنجلس ساقتني الأقدار في أحد الأيام إلى الذهاب مع بعض الأصدقاء المصريين من المقيمين في المدينة. وأثناء العودة أشارَ صديق إلى أحد القصور في ضاحية بيفرلي هيلز، وقال هذه كانت فيلا الملكة نازلي فأخذ الاسم يرن في أذني. وأخذ يسرد تفاصيل الجريمة التي هزت مدينة لوس أنجلس منذ ثلاثين عاماً، عندما أطلق رياض غالي ست رصاصات على زوجته الأميرة فتحية أصغر شقيقات الملك فاروق فأودى بحياتها. كان صوت الصديق يرن في أذني وهو يواصل سرد بعض التفاصيل كما قرأها في الصحف ودفعني الفضول إلى مشاهدة المكان الذي عاشت فيه ملكة مصر ثلاثين عاماً فطلبت منه ان يتوقف بالسيارة إلى جوار الفيلا).

وهنا تقرر الكاتبة البدء في رحلة البحث وتدوين سيرة حياة الملكة نازلي (لم يكن سهلا أن نصل إلى الأشخاص الذين عاصروا الملكة نازلي في الولايات المتحدة فقد مات معظمهم، أما الموجودون على قيد الحياة فقد آثروا الصمت احتراماً لسكون القبر، حيث إني لم أجد سوى القلة القليلة ممن عاصروا الحكاية، أو شاهدوا ابنتها الأميرة فايزة، التي كانت تعيش أيضاً في أمريكا وماتت عام 1994 بعد معاناة مع مرض السرطان). تصف الكاتبة العيش بعيدا عن الوطن في الغربة، فالوطن مثل الأم مهما وجدت أجمل منها فلا يوجد من هو في حنانها، وهذا ما حدث مع الملكة نازلي التي حكمت على نفسها بالغربة بعد تصاعد الخلافات بينها وبين ابنها الملك فاروق لتهرب من جحيم القصور إلى جحيم الطامعين، فكأنها هربت من النار إلى الرمضاء. أصرت نازلي على زواج ابنتها فتحية من رياض غالي أحد موظفي السفارة في مرسيليا، الذي ترك وظيفته وأصبح السكرتير الخاص بالملكة نازلي وزوج ابنتها، ومحل ثقتها ولم يكن آهلاً لهذه الثقة فبدد أموال الملكة، وكذلك عمل على سحب قروض من البنوك الأمريكية بضمان مجوهرات الملكة، التي لم تكن تكفي قيمتها لسداد هذه القروض ليعلن البنك الفيدرالي الأمريكي في فبراير/شباط من عام 1973 إفلاس الملكة.

إن نازلي لم تفلس فقط من الأموال، بل كان إفلاسها في كل شيء حتى في قلوب من أحبتهم مثل ابنها الملك فاروق، الذي قاطعها بعد تزايد الخلافات بينهم بسبب إصرارها على زواج أخته الأميرة فتحية من رياض غالي، حتى عندما سقطت الملكية وخرج فاروق من مصر لم يقبل ان يهاتفها ولو مرة واحدة إلى وفاته في عام 1965 وإصرار الملكة على حضور الجنازة رغم إنها بلغت الـ 71 من العمر.

ويبقى السؤال الذي تطرحه الكاتبة والذي فقدنا جوابه مع الزمن (كيف لملكة بخبرة ومكانة الملكة نازلي أن تثق برياض غالي ثقة عمياء، وهو بلا أي خلفية علمية أو ثقافية، فتضع بين يديه ثروتها ومجوهراتها وتزوجه ابنتها الصغرى الأميرة فتحية أكثر البنات قرباً إلى قلبها؟ ولماذا أطاح رياض بالثروة وقتل الابنة؟). الحقد الطبقي المتجذر في الأعماق والإدمان والمشاريع الفاشلة التي دخل بها رياض غالي، هل كانت هذه أسباب كافية لتعيش الأسرة هذه الأحداث المأساوية من سنوات الملك والجاه إلى سنوات الذل والهوان.

تحول كتاب (ملكة في المنفى) إلى مسلسل تلفزيوني من بطولة نجمة الجماهير نادية الجندي.

راوية راشد: إعلامية وصحافية مصرية اشتهرت بتقديم برنامج «خلف الأسوار» أول برنامج حوادث يذاع على التلفزيون المصري. صدرت لها روايتان «صمت الريح» و»هوس البحر» بالإضافة إلى ثلاثة كتب «شخصيات وعواصف» و»ملكة في المنفى» و»يوسف وهبي سنوات المجد والدموع». صدر لها أول عمل مسرحي عن حياة جلال الدين الرومي عام 1997 وتمت ترجمته إلى الإنكليزية عام 2010.

القدس العربي

Leave A Reply