«إنكسار الروح» نزيفٌ بين الوطن والشجن

عندما لا يملك الانسان زمام أمره ولا يمسك عن نشدان الحبّ الأعمى الذي قد يودي به إلى التهلكة، فإنّه يصنع وطناً من شتات حبّه ويهوي بمطرقة اليأس على باب الفقد الأليم.
لقد حاول الكاتب محمد منسي قنديل أن ينزع بفطرته أن يحبّ بطله كما يحب، ويجري مقارنة بين الوطن والشجن، فالوطنُ هو الملاذُ الأخير لرفات الروح والجسد، والشجن هو الاحساسُ الذي يورثه الحبّ المستحيل الذي يَعبرُ من دون أن يُعبر، ويُمنحُ من دون أن يَمنحَ شيئاً.
في القصة تاريخ مجيد لمصر، في زمن الزعيم جمال عبد الناصر وثورة العمّال وزجّهم في السجون، ثمّ الافراج عنهم بعد أن أصبحوا أشباحاً ثكلى نفوسهم بالأنين والأوهام، لا يميّزون بين الواقع والخيال، وهذا نقدٌ ذاتي من الكاتب قنديل الذي ربّما راودته اعتراضاتٌ جدّية على سياسة الزعيم عبد الناصر الذي يحمّله نوعاً ما رهبة الهزيمة التي ألحقتها بهم النكسة رغم توصيفه له بالشخصية النادرة التي لن تتكرّر على مدى التاريخ.
تبدأ القصّة بفاطمة وتنتهي عندها، وفاطمة التي تمثّل مصر المحبوبة التي تجلّت ثم انحجبت ثمّ انجرفت في تيارات السلام الوهمي وكانت نهايتها صارمة دامية.
البطل انسانٌ بسيط والده عامل في المصنع يعود كلّ مساء ملوّث الذراعين بالشحم، تصحبه زوبعة من الانتفاضة التي تملّكته اعتراضاً على أنّ النقابة التي كانت ملكاً للعمّال وهنالك من يحاول اهداءها للحكومة لهضم حقوقهم، وكان قد صنع دماغه بنفسه حسب وصف الكاتب بسبب الكتب التي قرأها رغم ضعف مستواه العلمي، والأمّ سيّدة مصرية طيّبة لا تلويها الأزمات ولكنّ القلق يعتريها دوماً على عزم زوجها للخوض في اتون العصيان في عمله.
يلتقي البطل بفاطمة على سلالم منزله، تجمعهما رؤيتهما لقطة تحنو على أطفالها الصغار فتبدأ قصة حبّه لها، فهي لا تكاد تظهر لتختفي من جديد، يجدها في صلب معاناته عوناً وغوثاً من حيث لا يدري، تمدّه بحنوّ متسلسل وتعانقه بعطفها الذي يؤازر ضعفه ويجعل منه سدّاً لا تعبره الهموم.
يسجن والده بعد إضراب العمال، ويؤخذ إلى سجن بعيد وتبدأ أمّه بالعمل في خدمة المنازل كي تعيل ابنها، ويرسم الفقر وشمه على باب منزله.
تعاود فاطمة الظهور في تلك الفترة فتبدأ الملامسات الحسيّة بينهما، ولكنّ أمّه تداهم خلوتهما وتقرع فاطمة بالتأنيب وتقوم بضربها ليتلقّى عنها الضربات واللكمات قبل أن تولي الأدبار فراراً. بعد اختفائها يظلّ يلمحها في هيكل التبتّل المردم للعشق ويرسمها في مخيّلته مثل الصواري الراسخة في عمق الرمال.
تأخذه أمّه بيده لزيارة أبيه في السجن بعد شهورٍ من الانتظار، فالمداومة على الانكسار جرفٌ عميق صارخ لا ينفكّ يسري في رواسب الروح حتى النهاية، يستقلّان قطار الفقر الذي يقلّهما إلى محطة أخرى، مشوار طويل يعانيان منه وسلّة الطعام التي حضّرتها أمّه بسهرها الطويل قد بدأت تهتزّ في يدها، وحين وصولهما بعد أن هربت منهما الأنفاس وتقطّعت، يعودان أدراجهما خائبين مكسورين وقد رَمت الأم سلّة الطعام من نافذة القطار بعد أن أفسدتها الشمس، لأنّ الضابط أمر بتأجيل الزيارة من أجل تأديب المسجونين.
ذلُّ منسوجٌ بالخيبة ومحنّطٌ في دائرة الفقر، يصفه الكاتب بشغاف قلبٍ ممزّق بين حبّ مُذبذب لا يستقرّ على برّ آمن ويداوم الهروب منه، وشغف بالوطن الذي نهض من محنة ليواجه محنة أخرى. يداوم البطل الذهاب إلى المدرسة ويدفع له مدرّسوه القسط بعد أن تآكله العوز، ثمّ يتمّ الإفراج عن أبيه الذي يحضر إلى المنزل نصف إنسان أو بالأحرى نصف كيان.
إنّها جهوزية الألم الذي يصفع كالتيّار الرادع لا حول معه ولا قوّة يُستعان بها، يسود الصمت القاتل منزله وينام أبوه كلّ ليلة على الأرض حتّى لا يشعر بوخز الألم الرهيب الذي يعصر مفاصله من جرّاء السجن وما قاساه فيه، يصبح هيكلاً متحرّكاً بلسان القبول، يتقبّل كلّ ما حوله من دون اعتراض لأنّه فقد الأمل في الحياة.
تتوالى الأيّام ويذهب ليمتحن للثانوية العامة، فيلتقي لوهلة لا يصدّقها عقله بفاطمة التي تكون بانتظاره لتبثّ فيه الأمل وتنفح فيه من روحها لهيب الطموح. ثمّ يذهب ليتعرّف الى أهلها ويقحم عالمها الخاص بعد أن خاف ضياعها منه مرّة أخرى. يتعرّف الى أبيها وأمّها واخوتها الصغار وأخيها الذي يكبرها سنّاً ويخدم في الجيش المصري، يتلقّى الاحتمالات كلّها من أجلها ويتقبّل تعنيف أبيها له بسبب صغر سنّه وانتقاد أخيها برحابة صدر، ثمّ يتعهّد أمامهم بخطبتها، وتستمرّ لقاءاته بها لأيّام قليلة قبل أن تقرّر الذهاب برفقة أمّها لزيارة أقاربهم في الريف، فيحتويه الخوف ويحاول أن يثنيها عن قرارها ولكنّها تسخر من لهفته المضنية، وعند ذهابها تمرض أمّه ويضطرّ لمرافقتها إلى مصحّ بعيد من أجل أن تنعم بهواءٍ نقي، بحسب نصيحة طبيبها.
عند عودته يركض إلى بيت فاطمة لينبئه الجيران برحيلهم بعد موت والدها إلى قرية نائية تخصّ معارفهم ولا يحدّد له أحد المكان، ولكنّه يقصد كلّ الأمكنة ويعبر كلّ الأزمنة ليعثر عليها من جديد من دون جدوى. يدخل كليّة الطب بعدها، ويصارع من أجل النجاح، ويلتقي بزميلته سلوى الفتاة الثريّة التي تستميله برقّتها واهتمامها به، وتظهر فاطمة ثانية في حياته عندما تعترض الجماعة الاسلاميّة في الجامعة مجموعة من الطلاب يكون من ضمنها ويقوم طالبٌ منهم بضربه ضرباً مبرحاً، ولكنّها تفلت مجدّداً ساخطة ناقمة من بين أنامله عندما يتّهمها زميلٌ له بالعمالة مع الشرطة ولا يقوم بالدفاع عنها كما يجب، فتغضب منه وترحل من دون أن تمنحه فرصة الدفاع عن نفسه رغم تعلّقه الشديد بها.
ترسم سلوى خطّتها للارتباط به وتمهّد له السبل بعد تخرّجهما من كليّة الطب ولكنّه لا يستطيع تحمّل عبء الفساد المُرفّه الذي يحيط بها وبوالدها المتعجرف فينسلّ هارباً، وتموت أمّه بعد فترة وجيزة ويدفنها في الحلك القاتم من قلبه قبل أن يواريها الثرى دامعاً ومفجوعاً بفراقها.
يقترح عليه أحد أصدقائه الذهاب إلى بيت للساقطات حتّى يلقي حزنه في حضن إحداهن، فيوافق وقد غاب منه الوعي، وهناك يلتقي بفاطمة التي تختم نهايتها بعملها كمومس تبيع جسدها بالرخيص فيحاول أن يسحبها من وكر الخطيئة ولكنّ العاملين هناك يقومون بسَحله وضربه لينتهي جسداً مكوّماً فوق تراب الانكسار والهزيمة.
يشبّه الكاتب نهاية فاطمة بنهاية مصر التي عقدت حلف الانكسار مع العدو ويحسم النهاية بحزنٍ متطلّع لما بعد الختام. يظهر رأيه السياسيّ جليّاً بين طيّات الحبكة ونوازعها وبوادرها ودوافعها.
محمد منسي قنديل كاتبٌ مُنهمك في السرد حدّ الجنون، يأخذ معه الخيال إلى نقطة اللاعودة ويتحكّم به بدل أن يستدلّ منه، فيتزعّم التعبير الانسانيّ برحابة لامحدودة ويشكّل منه رواية تستحقّ التأمّل.
نسرين بلوط – الجمهورية

Leave A Reply