حفرة

ساره البيطار

كان يحبّ المبالغة. يهوى استخراج أعمق صوت صراخ، وأقذع نظرة استحقار في جوف الضحيّة. ليس جلاداً في عهد ملكٍ ظالم، ليس قائداً حربيّاً ساديّاً مهوساً، كان أبي! 

كنت فتاةً يتيمة ذات شهرة عالية، إذ يضربها والدها بوحشيّة دون إنذار أو سبب. لم يرق له الضرب العادي أبداً!

دموع جافة، تنحدر بلا صوت أو شكل، لا تُرى بالعين المجرّدة. كنت فتاة متحجّرة للناظرين إليّ – كان جيراننا يأتون دائمًا بعد وصولي إلى حافّة النّفس الأخير قبل الموت بين يديه- يسألونني: “هل أنت بخير؟” 

أنظر بصمت وذلّ على هيئة كبرياء. أهرب إلى مكان يغطّيني من أعينهم. لولا تلك المرأة الحنون الّتي أعلم أنّ زوجها كان يمنعها من المجيء لإنقاذي، لقلت إنّ الجميع في تلك البناية كانوا من فئة “الإنسان النّذل” بلامنازع. كانت تأتي خلسة بعد أن يذهب الجميع وينام زوجها، تطمئنّ عليّ وتطعمني بعد أن تغسل وجهي بيديها الدافئتين محاولة تهدئتي، إذ كنت أصاب بمتلاحقة أنفاس خارجة عن سيطرتي. ما أعذب كوب الماء الذي كانت تقدّمه مع ابتسامتها الآمنة. ليتها كانت أمّي!

جسدٌ له ألوان حارة من آثار العضّ والرّكل وتلقّف الضّربات من تلك اليد التي تشبه “المرزبّة”. لم أكن أسمح لنفسي بالبكاء أمامهم. كنت أخجل من شعري. يتحول كشجرة بريّة مع كل “قتلة”، كان هذا الشكل يجرحني ويؤثر بي أكثر من الوجع.لكن… ليس هذا أشد ما يؤلمني الآن. ولم يكن كذلك في السّابق. كنت دائماً أراقبه بعد أن يتعب من ضربي. كان يجلس في زاويته يدخن السّجائر ويبكي.. كان بكاؤه كطفل. مازلت أرى يده المرتجفة وأصابعه الداكنة. أرى تجهّمه يُدمي قلبي. وقد نظر في عينيّ تلك المرّة الّتي ختمت معاناتي. سألني: 

– هل تكرهينني؟

أجشهت بالبكاء، كنت أتمنى أن أنكر هذا، أن أخفّف عنه الحمل إذ كبرت وعرفت أنه ضحيّة سابقة أنجبت ضحيّة أخرى.

كرّر سؤاله محدّقاً في عينيّ محاولاً الاقتراب. ارتجفت. ارتجفت أوصاله وقد ارتدّ إلى الوراء مصعوقاً. خرج. غاب وقتاً طويلاً. كنت انتظره خائفة. قلب يجري في سبق، ومعدة تطحن نصالاً حادّة. أراقب النّافذة وأحضّر نفسي “للقتلة” القادمة بعد حين. كم أكره انتظارها:”لو يعلم الجلّادون معاناة ضحاياهم أثناء الانتظار لمارسوه وحده كأشدّ أنواع التّرهيب.”

يومها، فُتح الباب على مهلٍ. عاد إنساناً آخر. بقي قليل الكلام والحركة حتّى اليوم. لم أدرك سبب تغيّره. لم أدرك حجم معاناتي رغم توقف الضرب إلى الأبد. كنت أعتقد أن هذا الكابوس له نهاية كالأفلام والقصص لابد آتية مهما طال الأمر. كم تمنّيت إعادة هذا المشهد واحتضانه آلاف المرّات، غير أنّني ما أزال أرتجف عندما يقترب منّي حتّى في مخيّلتي.

لن يفهمني أحد إن قلت إنّني طالما أشفقت عليه أكثر من إشفاقي على نفسي.

حفرة… كنت أراكم فيها الغضب. مازالت تتّسع للمزيد حتّى الآن. مرّ في حياتي كثيرون آذوني مثل أبي. ليتهم يعلمون شدّة عذابي إذ لم أمارس الكره الطبيعيّ تجاه من ظلمني وعذّبني. كيف ذلك يا الله؟ ألا يحقّ للمرء أن يبغض جلاّده؟!

حفرة أخرى. حقيقيّة هذه المرّة. تحمل رفات أبي. تجعلني أبكي إذ لا تّتسع لدفن ذكرياتي ولا تصلح لدفن غضبٍ يزداد ويتراكم. 

كنت وما زلت، أشفق على كلّ الأشرار في الأفلام والمسلسلات. أرى الألم المختبئ خلف تصرّفاتهم. لا أجيزها، بل وأحتقرها بشدّة، لكنّني أرى فيها وجه أبي يبكي!

ويدخّن السجائر. 

تمّت.

Leave A Reply