التحقيق الجنائي خسارة سياسية

الكاتب غسان العياش – النهار:

كان عهد الرئيس ميشال عون بغنى عن تسجيل خسارة سياسية جديدة نتيجة إخفاقه في تحقيق التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان. لقد تلاحقت في السنوات القليلة الماضية الأزمات والانتكاسات التي تزامنت مع عهد الرئيس عون وإن كان فريق الرئيس ومستشاروه مسؤولين عن بعض هذه الأزمات فقط.

لا يشكّ أحدٌ في صعوبة المشاكل القائمة واستعصائها على الحلول. لكن المنطق يقول إن الفريق الذي يصارع بكل قواه على مدى ثلاثة عقود لكي يصل إلى رئاسة الجمهورية لا يجوز أن يحقّق هدفه وهو لا يمتلك حلّا واحدا لمشكلة أساسية أو نصف أساسية.

لماذا نحتسب سقوط التحقيق الجنائي خسارة لفريق العهد ومستشاريه وليست خسارة للبنان؟

السبب أن هذا الفريق هو الذي طرح التحقيق الجنائي وأصرّ عليه واعتبره منطلقا للإصلاح الشامل، قبل وخلال وبعد المبادرة الفرنسية، لكن طرحه للتحقيق جاء معيوبا ومشوبا بالثغرات.

بداية، وكما تكرّر في أكثر من مناسبة، إن المسؤولية عن الكارثة التي وصل إليها لبنان ونظامه المالي تتوزّع بين السياسة المالية والسياسة النقدية، بل إن مسؤولية مالية الدولة تتفوّق وتتقدّم على مسؤولية عمليات مصرف لبنان وسياساته. فلماذا يصرّ فريق العهد على تركيز التحقيق الجنائي على مصرف لبنان دون سواه؟

بلغت نفقات الدولة بين عامي 1993 و2019 أكثر من 260 مليار دولار، عدا عن نفقات العديد من المؤسّسات العامّة التي غزاها جراد الفوضى والهدر والسرقات. ولا شيء يبرّر تحييد هذا الانفاق الضخم المشكوك بنظافته وسلامته عن التحقيق، رغم الوعود الفضفاضة وغير المضمونة بأن التحقيق سوف يدخل لاحقا إلى كل مؤسّسات الدولة.

وما هي هذه البدعة التي يروّجون لها، بأن حسابات مصرف لبنان توصل التحقيق إلى الإرتكابات في المؤسّسات العامّة والوزارات. الدولة ليست مضطرة لولوج هذا الطريق المتعرّج عبر مصرف لبنان لكي تكتشف حسابات مؤسّساتها، معرّضة التحقيق الجنائي للغرق في متاهات وسفسطات السرية المصرفية. فالدولة تملك كل حسابات القطاع العام، ومنذ فترة غير بعيدة أنجز فريق في وزارة المال برئاسة آلان بيفاني قطوع الحسابات عن معظم سنوات المرحلة المشبوهة، فلماذا لا تقدّم هذه المعلومات ومستنداتها إلى التحقيق الجنائي مباشرة ودون المرور في مصرف لبنان؟

أما حسابات مصرف لبنان الخاصّة فهي مكشوفة أمام مفوضة الحكومة لدى مصرف لبنان، ولا يبقى في نطاق السرية إلا عمليات المصرف المركزي مع المصارف.

تركيز التحقيق الجنائي على مصرف لبنان وحده يوحي بوجود نيّة سياسية للاستهداف والاستفراد. وتحديد سير التحقيق عبر مصرف لبنان لكشف الموبقات في عمليات القطاع العام، يوحي بأن هناك من يدعو إلى التحقيق الجنائي في العلن ويسعى إلى عرقلته في الخفاء.

الأمر الذي يتجاهله العارفون أن التحقيق المطلوب هو أوسع كثيرا من التحقيق الجنائي. فهذا الأخير يتتبّع العمليات التي تخالف القانون الجزائي ولا يلاحق باقي العمليات في مصرف لبنان والقطاع العام. فيما تحديد أسباب الكارثة التي وصل إليها لبنان ونظامه المالي، وتحديد المسؤولين عنها، يجب أن يتضمّن أيضا السياسات الخاطئة والخيارات التي لا يعاقب عليها قانون العقوبات. فالتحقيق الجنائي هو تحقيق وحيد الجانب بينما المطلوب كشف كل السياسات والقرارات غير الملائمة التي ساهمت في إفلاس البلاد، وهي تشمل في ما تشمل الإنفاق المفرط، وإقرار موازنات لا صلة لها بالواقع، وتقديم أرقام وهمية للبرلمان والرأي العام، والاستدانة بالعملات الأجنبية لتمويل الإنفاق الجاري، وتغاضي النوّاب عن ثغرات الحسابات الختامية، ورفع الفوائد إلى مستويات فاحشة على حساب الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي واستعمال ودائع المودعين لتثبيت سعر الصرف.

المطلوب تقرير شامل ونزيه عن أداء الدولة المالي منذ ثلاثة عقود، يشمل الأفعال الجرمية والخيارات الخاطئة على حدّ سواء. فمعرفة الحقيقة تتطلّب تقييما شاملا للسياسات المالية والنقدية وسلوك السلطات الدستورية ومخالفات الإدارات العامّة.

بعد انجاز هذا التقييم وإبلاغه للرأي العام، يمكن الانتقال إلى التحقيق الجنائي الذي يحصر اهتمامه بالتصرّفات الجرمية ويلاحق المسؤولين عنها أمام القضاء.

Leave A Reply