بول شاوول: الطائفية نفايات الدين والشعر لم يخضع للعولمة

حوار: دارين حوماني

 

شاعر التجريب، المتجدّد، المختلف، المسرحي والسياسي والصحافي، ومعهم أيضًا المترجم- شخوص متعدّدة في شخص واحد، هو بول شاوول الذي يرافق جريدته والسيجارة والمقهى فارغًا كان أم ممتلئًا يوميًا لكنه لا “يهرم خلف الزجاج”، وهي الجريدة التي تبدّلت من “السفير” إلى “النهار” إلى “المستقبل” حتى إغلاقها في عام 2019، كان فيها مسؤولًا عن الصفحة الثقافية وناقدًا أدبيًا وكاتبًا سياسيًا. قبل أن تكون الأرض صلبة بدأ بكتابة الشعر في عام 1974 مع “أيها الطاعن في الموت”، وتوالت المجموعات الشعرية التي كان يكره نشرها لأنها لن تعود ملكه فاحتفظ بالكثير منها في مكتبته ولم يقدّمها للقارئ. خلال العام الحالي صدرت له مجموعة شعرية- “حديقة الأمس”- التي كتبها قبل عشر سنوات باسم “حديقة المنفى العالي” لكنه غيّر الاسم عند نشرها هذا العام لأنها يبست، فهي واقعية، ومن الواقع يكتب بول شاوول ليذهب بعدها في ممرات ترابية وهوائية وينقل وجوه المدينة التي يوصلها إلينا فلا تسقط، عبر مسرحياته والتي تركت بصمة في الشارع البيروتي وأبرزها “قناص يا قناص” و”الحلبة” و”المتمردة” مع نضال الأشقر. كما كتب حوارات تلفزيونية لعدد من الأفلام والمسلسلات أبرزها “بيروت يا بيروت” و”السنوات الضائعة” و”نساء عاشقات”. له ترجمات عديدة عن الفرنسية منها ترجمة “في انتظار غودو” و”نهاية اللعبة” لصموئيل بيكيت و”كتاب الشعر الفرنسي الحديث”.

عن أعماله التي لا يستنسخ فيها أحدًا ولا يكرّر نفسه فيها كان لنا معه هذا الحوار:

(*) يُعرف عن بول شاوول أنه حين يقرّر نشر مجموعة شعرية يعمد إلى تصفية شعره وتنقيته وحذف أكثر من نصف ما كان قد كتبه، رغم أنه من المعروف عن الكتّاب والشعراء أن ما يكتبونه عزيز على قلوبهم ولا يحبون حذف أي جملة، من أين تأتي هذه القدرة على رمي ما تكتبه دون الشعور بالأسى؟

– هناك نوعان من الشعراء، منهم من يكتب القصيدة في الليل وتخرج دفعة واحدة وينشرها في الصباح، لست ضدهم، ومنهم من تكون القصيدة بالنسبة لهم “مشروع”. كتبتُ “أوراق الغائب” في ست سنوات وكانت مئتي صفحة فأصبحت عند النشر ألف وخمسماية كلمة، وكتبت “كشهر طويل من العشق” في ثلاث سنوات، و”بوصلة الدم” كتبتها خلال سنتين وكانت أربعماية صفحة فأصبحت ثلاثين صفحة. الشعر هو فن الحذف، وهو بالنسبة لي “مشروع”. منذ عشر سنوات كتبتُ ديوانين وأرسلتهما لدار النهضة العربية ولم يُنشرا في حينه لأسباب شخصية، ومنذ فترة سألني عبده وازن عنهما وأصرّ على أن أنشرهما. بعد وقت قصير جاء لي بالكتابين مطبوعين وهما “حديقة الأمس” الذي صدر مؤخرًا و”حجرة مليئة بالصمت”. عندما قرأت “حديقة الأمس” لم يعجبني لكن عبده وازن قال لي إن هذا الكتاب تحفة، أما “حجرة مليئة بالصمت” فعندما قرأته رميته في حاوية النفايات، ركضت علوية صبح لترفعه من الحاوية، قلت لها لا أحد يلمسه، هذا الكتاب أقلّد نفسي فيه، وليس فيه أي جديد، وهذا مَثل أني نشرت 10% من الشعر الذي كتبته. أحيانًا أشتغل على القصيدة سنتين، وأكتشف أنها تافهة، فأرميها.

(*) يقول الشاعر الفرنسي ريفردي “الصورة الشعرية تنجم عن العمل الصافي للمخيلة المطلقة”، هل ينطلق بول شاوول من هنا من أجل الاختزال في المعنى اللغوي والتخلّص من زوائد الكلام؟

– ريفردي من أهم شعراء قصيدة النثر، رأي ريفردي هو رأي مالارميه أيضًا، وأيضًا رأي سعيد عقل، وكذلك الشاعر العظيم أبي تمام، وديبوشيه وفاليري من نفس الرأي. هناك الاتجاه التدفقي القادم من الرومنطيقيين مثل الياس أبو شبكة، يعتبرون أن القصيدة تأتي من فوق، من ربّة الشعر والوحي، ومثل الطفل كاملة لا يمكن مسّها، أما سعيد عقل فينحت شعره، يشتغل على الرمزية، وقد تشاجر ذات يوم مع إلياس أبو شبكة، قال له أبو شبكة: “أنت نجار”، فأجابه سعيد عقل “أنت عاطفي وضعيف”. جاءت السوريالية والتي هي الرومنطيقية المتأثرة، التي جاءت من استلهام الوعي إلى استلهام اللاوعي والغامض. السورياليون كانوا ينامون مغناطيسيًا ويقولون الشعر خلال نومهم، هذه الاتجاهات لا تزال إلى الآن. رامبو يتفجّر شعره. أنسي الحاج يتدفّق شعرًا ما عدا “الرسولة بشعرها الطويل”، البياتي وشوقي أبي شقرا يتدّفقان شعرًا، ونزار قباني أيضًا، نزار قباني من أولئك الذين يجمعون بين الاثنين، التدفق والعمل على الإيقاع العام والصورة، تأثر نزار قباني بالياس أبو شبكة ثم تأثر بـ ت.س. إليوت.

(*) أين قصيدتنا الحالية من هذه الاتجاهات؟

– الشعر يتمرّد على كل هذه الاصطلاحات، الحداثة وما بعد الحداثة، لماذا؟ لأن كلمة “شعر جديد” غير صحيحة، كل شعر هو جديد، يكفي أن تقول “شعر” حتى يكون جديدًا. في عام 1985 نشرت كتاب ترجمة للشعر الفرنسي الحديث من أربعماية صفحة لشعراء شباب، الآن سوف أُصدر عن دار الجمل الشعر الفرنسي الحديث من 1960 حتى 2016، ترجمت ستين ألف قصيدة. هؤلاء من هم يهمّوني، أراغون لم يعد يهمني، الشعر اليوم يعيش في عصر الازدهار.

الشعر اليوم في العالم مزدهر

(*) ثمة شعراء مكرّسون يقدّسون الشعر لكنهم ذهبوا نحو أجناس أدبية مختلفة وخصوصًا الرواية لأن “زمن الشعر ولى”، ماذا تقول في ذلك؟

ـ هناك نظرية تشاؤمية تافهة عن “موت الشعر”، الذين يفصحون عن هذا هم شعراء لا زالوا يكتبون الشعر وما زالوا في المهرجانات، كيف تقول إن الشعر مات وأنت لا تزال شاعرًا. في رأيي، الشعر اليوم في العالم مزدهر، سأعطيك مثلًا، ذهب أحدهم إلى دكان ليشتري غرضًا، قال له: هل لديك برغل؟ أجابه كلا، قال له: ومن أين أشتريه، أجابه: مقطوع من السوق. هؤلاء الذين يقولون “ولّى زمن الشعر” هم انتهوا، الشعر لم ينتهِ، انتهت تجربتهم الشعرية. الرواية اليوم تعيش في أخطر مراحلها، لا يمكن أن تأتي الرواية بديلًا عن الشعر، كأنك تأتين بعجلة سيارة مكان الطاولة. الرواية اليوم يقصدها بعض الشعراء من أجل الجوائز، يكتبون بمنطق الطلب والعرض عند أهل الجوائز. يكتبون ما يُعجب أصحاب الجوائز، الحرية الجنسية والمرأة. الرواية اليوم عولمت، وكذلك المسرح والفن التشكيلي والسينما خضعوا للعولمة، أما الشعر فلم يخضع للعولمة. الشعراء الذين ذهبوا إلى الرواية ذهبوا إلى العولمة والمال والربح. لماذا تمرّد الشعر على العولمة، الشاعر يكتب لنفسه وليس لجمهور يعجبه، لا نكتب تحت الطلب، لزعيم أو لصاحب الجائزة. أنا الوحيد الذي لم آخذ جائزة لأني الوحيد الذي لم يتقدّم لجائزة عربية.

(*) هؤلاء الروائيون والشعراء الذين يفكرون في الجائزة وهم يكتبون، هل فعلهم هذا مضرّ للأدب وقد يجعل الكاتب يذهب في اتجاهات وظيفية للأدب يراها الكاتب مطلوبة؟ 

– هؤلاء فقط متكسبّون، هؤلاء شعراء البلاطات، الذين يكتبون على ذوق الخليفة وعلى ذوق الزعيم. كُتبت قصائد لصدام حسين وللقذافي ولحافظ الأسد؛ كتبوا لهم قصائد تعجبهم، وقد ذهبوا الآن إلى بلاط جديد اسمه “أصحاب الجوائز ومموّلوها”، إنهم متكسّبون بطريقة مهذّبة.

(*) حين نقرأ “موت نرسيس” نشعر باختلاف مع “كشهر طويل من الشعر” ومع “دفتر سيجارة”، كذلك ثمة فرق بين “أيها الطاعن في الموت” و”بوصلة الدم”، ثمة تجديد مستمر في كتاباتك، لا تشبه بعضها، هل هي الرغبة في اجتياز النظريات الحداثية والذهاب في التجريب؟ 

– بعض الشعراء عندهم “أسلوبية”، يكتبون نفس القصيدة طوال حياتهم، مثل سعيد عقل وأمين نخلة ونزار قباني وسان جون بيرس وبول فاليري، وبعض الشعراء تختلف دواوينهم عن بعضها البعض، عندي خمس عشرة مجموعة شعرية لا تشبه بعضها البعض، ليس من كتاب يشبه الآخر، أفضّل أن أقلّد الآخرين على أن أكرّر نفسي. الذين يكتبون قصيدة أسلوبية سيكون مفتاح القصيدة معهم، الإيقاع نفسه، والتركيب نفسه. اليوم حلّت التجريبية محل التنظيرية، وأنا أعتبر نفسي من الشعراء التجريبيين.

(*) الموت حاضر دائمًا في شعرك منذ مجموعتك الشعرية الأولى “أيها الطاعن في الموت” وحتى مجموعتك الأخيرة التي تستحضر فيها الموتى في أكثر من مكان، هذا المعجم الجنائزي يجعلنا نسأل عن علاقتك مع الموت وحضوره في حياتك؟

– لا تنسي أنه منذ خمسين سنة إذا مشيتِ على الطريق فالموت هو ثانيك أي الثاني، إذا كنتِ مع أحد فالموت هو ثالثكما. منذ خمسين سنة ونحن نعيش في “الكوما”، الموت السريري، لا نعرف السلم. إذًا الموت ليس ظاهرة تجريبية، هو ظاهرة نراها في الشارع، موت المدينة، موت العالم، موت الناس، موت البلد، موت الدولة، موت الديمقراطية، موت الحرية، هؤلاء رافقونا خلال الحرب، كم مرة نجونا من القصف، من جيلنا، إذًا الموت هو واقع داخلي عند كل الشعراء. الموت هو عمق الحياة وأنت حي، أما عند الأديان فعندما تموت هناك حياة، يصير الموت هو عمق الحياة. بالنسبة لي ليس عندي هاجس الموت. عشنا أجمل شبابنا عجائز، الموت يختير المشاعر، القدر، والكرامة، ويلغي الحياة، يحولّها لسلعة بين المتقاتلين. نحن الشعب اللبناني نعيش كأننا ميتون. قديمًا في السبعينيات تعرّضت للضرب خلال المظاهرات، ثم أصبت خلال الحرب، كما قُصف بيتي واحترق ثمانماية كتاب من مكتبتي. كان من الطبيعي أن يكون الموت حاضرًا في كتاباتي.

(*) خلال لقاء شعري لك في الجزائر قلت إن أدونيس هو الأقل موهبة بين شعراء الحداثة والأكثر اجتهادًا، هل يمكن أن توضح لنا ذلك، هل هو اجتهاد في صناعة الشعر؟ حدّثنا عن علاقتكما، هل بيروت كانت سبب خلافكما القديم، يريد الجيل الجديد أن يعرف عن ذلك؟ 

– أدونيس بدأ في عمر الثلاثين يكتب شعرًا، قبل ذلك كان متأثرّا بسعيد عقل ويكتب مثله ومثل نزار قباني، أدونيس عمل جهدًا كبيرًا يُحسب له. جاء من سورية، تعلّم لغات عديدة وأبرزها الفرنسية، وسقى نفسه من المياه الثقافية وترجم واشتغل على نفسه، الموهبة هي كأنك تشتري وردة بإناء، تنسى أن تسقيها فتذبل، بقدر ما تسقيها من القراءة، من القلم، من الانفتاح على المجتمع والعالم، سوف تعطيك وتنوّعك. كان بيني وبين أدونيس خلاف ودام أربعين عامًا، ثم تصالحنا، لكني لم أحوّل الخلاف غير الشعري إلى خلاف شعري. ولكن أنسي الحاج كان بعمر العشرين حين نشر أول وأهم كتاب له. إذًا هناك موهبة مبكّرة أو موهبة متأخرّة، هذه الموهبة لا يُعرف متى تبزغ. بيكيت من كبار الروائيين على الطريقة الفرنسية الرمزية، في عمر 47 كتب للمسرح “في انتظار غودو” وما كان له علاقة بالمسرح قبل ذلك، فإذ بهذا الكتاب يغيّر وجه المسرح بالعالم، وكانت لديه غصّة أنه كتب أربع مسرحيات والكثير من الروايات لكنه عُرف كمسرحي ونسيه العالم كروائي. تشيخوف أيضًا هو أهم قصّاص في العالم، ونافس الروائيين دوستويفسكي وغوغول بقصصه، كتب أربع مسرحيات وعُرف بمسرحياته أكثر من قصصه.

منذ خمسين سنة مرّت خمسة أجيال، لا يعرفون ما هو الاستقلال، وما هي الكرامة

وما هي السيادة، تذهب ميليشيا وتأتي ميليشيا، قتلوا شبابنا وحياتنا،

وكلهم مرتبطون بالخارج. كل ميليشيا يصنعها الخارج. أنا ضد

كل وصاية خارجية مهما كانت على لبنان وضد أي إحتلال.

أنا أزدهر في الخطر، كل حياتي كانت خطرًا.

(*) آخر دواوينك الشعرية “حديقة الأمس”، تستدعي مفردات الطبيعة ككائنات حية، هل هي رؤية الحياة من مكان أكثر صفاءً ونقاءً من عالمنا؟

– منذ عشر سنوات كتبت هذه المجموعة كما قلتُ لك، وكل شاعر ينطلق من تجربة ذاتية وإلا كان كأنه يغتصب اللغة. كان عندي حديقة تشبه الغابة، كان فيها صنوبر وسرو وزهور وفراشات، كان اسم الكتاب “حديقة المنفى العالي”، لكن الحديقة ماتت. كتابي عبارة عن مونولوغات أحكي مع الوردة والشجرة، أنا عاشق الشجر، كان يوجد مقهى هنا في الحمرا ويوجد مقابل المقهى شجرتان، كنت أجلس وأكتب وأنا أنظر إليهما.

أحب المسرح منذ صغري

(*) كتبت حوارًا لمسلسل “السنوات الضائعة” ولفيلم “بيروت يا بيروت” لمارون بغدادي وكتب عبيدو باشا عن كتابتك المسرحية: “نصوص بول شاوول، نصوص برلمان الناس، الضائعين، الحائرين، المهددين، المياومين بالخوف والقلق، الجزعين أمام التبدلات العنيفة”، هل هي الرغبة في كتابة هزائم المدينة من خلال جنس أدبي آخر؟ وهل ينقص الشعر هذا التجريب البصري؟ 

– وُلد المسرح مع اليونان، المسرح هو ابن المدينة، أما الشعر ففي كل مكان. منذ صغري أحب المسرح وأقرأه، كنتُ في العاشرة من عمري عندما لعبتُ دورًا في مسرحية “السموأل”. كتابتي المسرحية غير تقليدية، أحاول أن أكتب نصّي. كتابة المسرح هي كتابة لا تنفصل عن الشعر بالمعنى العميق ليس بالمعنى التقني، هي كتابة خارجة من المجتمع ومن الحياة ومن التجربة ومن القضايا الكبيرة، الشاعر يمكن أن يكتب عن الزهرة ولا تكون له علاقة بالسياسة والمجتمع، لكن المسرح ينبع من المدينة، المدينة هي بيت التناقضات، بيت الاختلافات، هي بيت الحروب، بيت القرارات الكبيرة، بيت المذابح، هذا الإبداع الذي هو جوهر المدينة، الجوهر الذي يمتص تناقضات المدينة. الشعر يأتي بالعالم إلى داخلك وأنت تُخرجه على طريقتك، أما المسرح فأنت تتبع العالم إلى الخارج.

(*) هل لا يزال المسرح يتبع العالم إلى الخارج؟

– المسرح العربي الآن أكثر مما هو في العناية الفائقة، بدأ يتراجع. سنة 1989 كتبت مقالًا عن المسرح أقول فيه “من الانبهار الى الانهيار”، بعضهم يقول إن الحق على النظام، وهذا غير صحيح لأن المسرح في العالم العربي نشأ ضمن أنظمة غير ديموقراطية، في سورية وتونس… وهناك من يقول إن الحق على الجمهور وهذا أيضًا غير صحيح، لأن الجمهور فيه الشعبي والشعبوي وجمهور النخبة.

هناك نظرية تشاؤمية تافهة “موت الشعر”، الذين يفصحون عن هذا هم شعراء لا زالوا يكتبون الشعر وما زالوا في المهرجانات، كيف تقول إن الشعر مات وأنت لا تزال شاعرًا.

(*) كتبت مسرحيات لا تموت وأبرزها “قناص يا قناص”، ألا يمكن إعادة عرض هذه المسرحيات؟

– مسرحية “قناص يا قناص” هي دراما كبيرة، لكني الحقيقة أضعتها، لم نكن نطبعها، كل مسرحياتي الآن ضائعة، بيتي مئة متر مربع فيه ثمانية آلاف كتاب. المسرحية التي يجب أن تًعرض هي “شكري بدو ينتحر”، هي قصة شخص فقير يريد أن ينتحر، وصار الزعماء يذهبون إليه ليقولوا له “انتحر كرمالي”، وهذا ما يحصل الآن، زعماء ومطارنة وشيوخ، لكن المسرحية مُنعت، في النهاية يتمرّد ولا يقبل الانتحار، تمرّد على أهل السياسة السائبين الذين يستنحرون الناس لأجل مصالحهم، ما هي الحرب؟ هي أحزاب قتلت شباب طوائفها، الكتائب، الأحرار، عون، أمل، جنبلاط، حزب الله، شبابهم بالنسبة لهم هم ملك الجهة الخارجية التي يشتغلون لأجلها. خطفوني الكتائب سنة 1975 ونجوت بأعجوبة لأني وقفت ضد المذابح التي اقترفوها بحق الفلسطينيين. قطعت علاقتي مع عائلتي لأنهم كانوا ينتمون إلى ميليشيات، قطعت جذوري العائلية الطائفية كلها وليس الدينية، فالطائفية هي نفايات الدين.

(*) رغم كتاباتك السياسية إلا أنك لم تنخرط في أي عمل سياسي وانتقدت الجميع، ألم يكن ذلك غريبًا بين كانتونات الطوائف وشعاراتها خلال الحرب وبعدها؟

– أنا ضد الميليشيات، كان لدينا حركة الوعي، كانت حركة تغييرية، تختلف مع اليمين التقليدي ومع اليسار التقليدي، لدرجة أنه عندما بدأ الحراك منذ عام كتبت صحيفة “الأخبار”: “الثوار هم أحفاد حركة الوعي”، لأنهم ضد الاثنين، في رأسي جروح وفي جسدي أيضًا بسبب ما كنا نتعرّض له خلال المظاهرات.

أنا ضد إسرائيل حتى ما بعد التطبيع، لأن مجرد وجود

إسرائيل هو خطر على الأمة العربية.

(*) منذ سبعينيات القرن الماضي ومع اندلاع الحرب الأهلية، تركت مكان إقامتك في شرق بيروت حيث الأغلبية المسيحية وأقمت في شارع الحمرا حيث الأغلبية المسلمة، حدّثنا عن علاقتك بشارع الحمرا وببيتك الصغير حيث الكتب عوضًا عن الأطفال؟

– أنا شيخ العزّابين، ساكنت ولم أتزوج، هي مسألة مزاج شخصي، ولست موهوبًا للأطفال. أعيش في شارع الحمرا منذ أربعين عامًا، كنت أريد مكانًا متنوّعًا، كنت ضد الحزب الشيوعي وضد الكتائب، كل الأحزاب الوطنية جاؤوا لعندي، بالنهاية كنا نمشي سوية في المظاهرات. لم آت إلى هنا بصفتي مسيحيا بل بصفتي إنسانا لي الحق أن أعيش في أي مكان.. وإلى الآن لا أستطيع أن أعيش في منطقة كلها شيعة أو كلها موارنة أو سنة أو شيوعيون أو تقدّميون. سألوني ذات مرة، ما هو تحديدك للجحيم؟ قلت: الجحيم هو المكان الذي يتشابه فيه كل الناس. يوجد تنوّع في شارع الحمرا، هنا الشيوعي وحزب الله وحركة أمل والآخرون، تختلفين معهم، تتجادلون، وهذا التنوّع غير موجود في أي مكان، لا يمكنني أن أتحمّل غير ذلك. الحمرا هي عاصمة لبنان الحقيقية.. هي بيروت.

(*) تقول “النشر مقبرة القصيدة”، لماذا؟

– تكون القصيدة ملكك حتى تُنشر في كتاب، تصبح عند الآخرين، لا يمكنك بعد ذلك أن تطوّرها، تموت. النشر هو نهاية القصيدة التي ترينها ككائن، القصيدة هي كائن تنمّيها وتعطيها يدين وقدمين، وعندما تضعها في النشر كأنك وضعتها في براد الموتى، تجمد، لا قدرة على تطويرها. بعض الشعراء ينشرون قصائد كتبوها قبل عشرين عامًا كما فعل سعيد عقل، لا يمكن أن أنشر في سن الخمسين قصيدة كتبتها في سن العشرين، هنا يداك يبستا أما قبل عشرين سنة فيداك كانتا لا تزالان ماءً.

أنا ضد التطبيع

(*) كيف تنظر إلى التطبيع مع الكيان الإسرائيلي؟ هل هو حاجة؟

– الأمور تغيّرت في العالم العربي، كان هناك “العرب”، “الأنظمة العربية القوية”. كانت هناك أحزاب يسارية ومقاومة وطنية في لبنان، كتبت لهم قصيدة، حتى أنني كتبت لحزب الله ستة مقالات عند مقاومته لإسرائيل في التسعينيات، لكن فيما بعد عندما صار لديهم مشروعهم السياسي الداخلي تغيّر الأمر، فأنا مختلف معهم في ذلك. لأني لا يمكنني أن أدخل في أي مشروع شيعي أو مسيحي أو درزي أو عرفاتي. في سنة 1983 كتبت مقال “الميليشيات إيدز لبنان”، وسألوني كيف تجرؤ على ذلك. العالم العربي تغيّر، التطبيع تحت الطاولة أكثر من التطبيع فوق الطاولة. ألم تكن إيران حليفة أميركا لإسقاط صدام حسين؟ ألم تجتمع إيران وروسيا لحماية بشار الأسد؟ من هو بشار الأسد؟ هو الذي قال عنه نتنياهو: “إن سقوط الأسد هو كارثة على إسرائيل”. أنا ضد التطبيع مع إسرائيل. كتبت قصيدة عن أطفال غزة، هناك جملة في القصيدة تقول: “وحوش تطلع من التوراة”، هو التوراة الذي يقول الإسلام عنه إنه مُنزّل، طبعت القصيدة ووزعتها مجانًا على المكتبات والمعارض ووصلت إلى “إسرائيل”، وكتبت إحدى الصحف الإسرائيلية أنني ضد السامية. التطبيع خليجيًا كان سببه التمدّد الإيراني، ليس من أحد قادر أن يمنع التمدّد الايراني، ثانيًا لم يعد شيء اسمه “الأمة العربية”. لبنانيًا، ما دام هناك متر محتلّ فأنا ضد التطبيع، ليس من أحد كتب ضد إسرائيل بقدر ما كتبت، أنا رضعت من أمي أن أكون ضد إسرائيل، ليس لأسباب سياسية، أنا ضد إسرائيل لأسباب جوهرية في شخصيتي، هذه دولة معتدية. لكن عربيًا لم يكن هناك من شيء جدّي ضد إسرائيل. أنا ضد إسرائيل حتى ما بعد التطبيع، لأن مجرد وجودها هو خطر على الأمة العربية.

(*) ألم تشعر بالخطر بسبب جرأة مقالاتك السياسية؟

– منذ خمسين سنة مرّت خمسة أجيال، لا يعرفون ما هو الاستقلال، وما هي الكرامة وما هي السيادة، تذهب ميليشيا وتأتي ميليشيا، قتلوا شبابنا وحياتنا، وكلهم مرتبطون بالخارج. كل ميليشيا يصنعها الخارج. أنا ضد كل وصاية خارجية مهما تكن على لبنان وضد أي إحتلال. أنا أزدهر في الخطر، كل حياتي كانت خطرًا، رفع عليّ مسؤولون كثر دعاوى قضائية، واجهت في حياتي الكثير لكن لبنان أعطاني الكثير، أعطاني الموهبة، الحرية، الجمال، علّمني في الجامعة اللبنانية، علمني الحب، التسامح، والنضال، لبنان أعطاني كل شيء ومستعدّ أن أموت لأجله.

المصدر:ضفّة ثالثة

Leave A Reply