الخطر الوجودي مالي والاهتمام سياسي وانتخابي ولا انفراجات منظورة

كتبت صحيفة ” الديار ” تقول : التضخّم أو ما يُعرف بالإرتفاع المُزمن بالأسعار، هو ظاهرة طبيعية في الإقتصاد ولها إجراءات نقدية ‏ومالية خاصة تلجأ السلطات النقدية والمالية إليها لِلَجْمِها. إلا أن ظاهرة الإحتكار – التي هي آفة ‏أخلاقية من طمع الإنسان – تُسرّع وتيرة هذا التضخّم إلى مستويات عالية وبوتيرة متصاعدة لا يمكن ‏لجمها إلا بقوة القانون وبدعم من السلطات الأمنية والجهات الرقابية – ويطلق على هذا النوع من ‏التضخم “التضخم المصطنع”، أو “التضخم المتعمد” – كما هو الحال في لبنان‎.‎

فارتفاع الأسعار يأتي عادة إما من زيادة الطلب أو قلّة العرض أو من ارتفاع كلفة إنتاج السلع (أو كليهما ‏معاً) وهو في أغلب الأحيان يكون نتيجة ارتفاع أسعار النفط العالمية التي ترفع كل أسعار السلع بآلية ‏تُعرف بالتضخّم الضمني (‏Implied Inflation‏).‏

التضخّم في العالم

جائحة كورونا التي عصفت بالعالم في العامين الماضيين ضربت بشكلٍ كبير سلسلة التوريد وخفضّت ‏المخزونات من المواد الأولية والمنتجة. وخلال العام الماضي، أظهرت اللِقاحات فعاليتها ضد كورونا ‏وهو ما أعاد النشاط الإقتصادي إلى مستوياته ما قبل الجائحة وبالتالي زاد الطلب على النفط بشكلٍ مفرط ‏ارتفع معه سعر برميل النفط بشكلٍ كبير (ما بين 50 إلى 60% منذ بداية العام). هذا الإرتفاع الكبير في ‏أسعار النفط انعكس على كلفة إنتاج كل المواد الأولية الأخرى (زراعية، وطاقة، ومواد أولية للصناعة)، ‏وبالتالي ارتفعت الأسعار بشكل ملحوظ ودخل التضخّم إلى الإقتصادات العالمية حتى قبل الخروج من ‏الأزمة الإقتصادية التي خلّفتها جائحة كورونا.‏

منظمة أوبك بلس التي تضمّ منظمة أوبك وروسيا ودولا نفطية أخرى، رفضت زيادة الإنتاج (حتى الثلاثاء ‏الماضي) على الرغم من الدعوات العديدة التي وجّهها الرئيس بايدن وغيره من الزعماء. والحجّة ‏الأساسية للمنظمة أن انخفاض أسعار النفط خلال الأزمة العالمية، رتّب خسائر جمّة على هذه الدول ‏وأدخل موازناتها في عجز كبير وهي التي تعتمد بمعظمها وبشكل شبه أحادي على مداخيل النفط. وبالتالي ‏ترى دول المنظّمة فرصة في ارتفاع الأسعار لكي تعوض بعض الخسائر التي تحمّلتها خلال الفترة ‏الماضية.‏

المشكلة التي يطرحها لجم إنتاج دول الأوبك بلس من النفط، تتمحور حول دخول الإقتصادات الكبرى في ‏ركود تضخّمي سيكون من الصعب الخروج منه إذا استمر التضخّم لفترات طويلة؛ إذ من المعروف عمليًا ‏أن ارتفاع مفاجئ بقيمة 15 دولارا أميركيا في سعر برميل النفط، قد يقضي على النمو الإقتصادي بالكامل ‏وبالتالي هناك ضرورة لزيادة المعروض من النفط بهدف تفادي صدمات كبيرة قد تكون تداعياتها كارثية ‏في المرحلة المقبلة.‏

إلا أن رفع المعروض من النفط، يصطدم بعدة عوائق وعلى رأسها النقص في الإستثمارات في المرحلة ‏الماضية (منذ بدء جائحة كورونا)، وهو ما يجعل القدرة الفعلية للعديد من الدول المنتجة للنفط الأحفوري ‏والصخري محدودة ويتطّلب وقتًا حتى تعطي هذه الإستثمارات المفاعيل المرجوة منها.‏

أضف إلى ذلك أن هناك حسابات جيوسياسية تقوم بها بعض الدول المنتجة للنفط (روسيا مثلًا) لرفض رفع ‏الإنتاج من النفط وهو ما يعقّد الأمور أكثر. فخلال إجتماعها الأخير الثلاثاء الماضي، وافقت دول الأوبك ‏بلس على زيادة الإنتاج بشكل خجول (400 ألف برميل يوميًا على فترة شهر) وهو أمر غير كافٍ لتلبية ‏حاجة السوق من النفط أو لِلَجِمِ التزايد السريع في أسعار النفط.‏

فعلى سبيل المثال، أدى ارتفاع أسعار النفط العالمية إلى زيادة كلفة إنتاج المواد الأولية الزراعية ‏والصناعية، وهو ما انعكس ارتفاعًا في أسعار هذه الأخيرة. أضف إلى ذلك أن الأحوال الجوّية الناتجة من ‏التغيّر المناخي أدّت إلى ضرب العديد من المحاصيل الزراعية وهو ما ساهم في نقص المعروض ‏وبالتالي ارتفاع الأسعار، إضافة إلى الاهتزاز الأمني في كزاخستان الذي أثر سلبياً في مستويات الانتاج ‏العالمي.‏

وكأن كل ما سبق لا يكفي، فقد أدّى انخفاض قيمة الدولار الأميركي (مؤشّر الـ ‏DXY‏) إلى رفع الأسعار ‏من قبل منتجي المواد الأولية بحكم أن هذه الأخيرة مقوّمة بالدولار الأميركي وهو ما يدفع المنتجين إلى ‏رفع أسعارهم لتعويض الخسائر.‏

باختصار، إنها تجمّع عدد من العوامل ذات التداعيات السلبية تزيد الغموض في التوقّعات الإقتصادية في ‏المرحلة المقبلة في ما يخص الإقتصاد العالمي، حتى ولو أن التداعيات تختلف بين الإقتصادات المتطوّرة ‏والنامية والمنتجة للنفط.‏

التضخّم في لبنان

لبنان ذو الاقتصاد المنهار، يتحمّل تداعيات ارتفاع أسعار المواد الأولية (نفط، مواد زراعية وصناعية) ‏مثله كمثل أي دولة أخرى في العالم. إلا أن الطبيعة “التفككية” لمقومات الدولة اللبنانية وفقدان أجهزة ‏الرقابة فعّاليتها، أدّيا إلى فلتان في الأسعار حتى قبل ارتفاع الأسعار العالمية، وهو ما يُنذر بارتفاع مُطرد ‏للأسعار في المرحلة المُقبلة بحكم ثلاثة عوامل:‏

أولًا – إستمرار ارتفاع الأسعار العالمية للمواد الأولية حتى منتصف هذا العام في أحسن التوقّعات، ‏خصوصًا أن هناك طلبًا عالميًا على كل المواد الأولية نتيجة عودة النشاط الإقتصادي وعملية إعادة تكوين ‏المخزون وتثبيت سلسلة التوريد.‏

ثانيًا – التوقّعات بارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية في السوق السوداء واعتماد ‏هذا السعر من قبل التجّار وهو ما سيؤدّي حكمًا إلى ارتفاع الأسعار بشكل تصاعدي مستمر نظرًا إلى أن ‏الأسعار – لا سيما مع بقاء الإحتكار – لن تنخفض في لبنان (يكفي النظر إلى هيكلية الأسعار من خلال ‏البيانات التاريخية).‏

ثالثًا – الإحتكار الذي ظهر بشكلٍ عنيف في العامين الماضيين والذي كانت تداعياته ارتفاعا مصطنعا (أو ‏متعمدا) في أسعار السلع والبضائع من دون أن يكون للأجهزة الرقابية أي مفعول إيجابي على خفض ‏الأسعار. وأكبر مثال على انتشار الإحتكار، العملية التي قام بها الجيش اللبناني في العام الماضي لمكافحة ‏تخزين المحروقات والتي أدّت إلى إكتشاف ملايين الليترات من هذه المواد المخبأة من دون أن تجري ‏محاسبة المرتكبين إلى وقتنا هذا (؟!). ومن أمثلة الإحتكار الأخرى وفلتان التلاعب بالأسعار، الضريبة ‏على القيمة المضافة والرسوم الجمركية التي يدفعها المواطن على سعر صرف السوق في حين أنها تُدفع ‏للدولة على سعر الـ 1515 ليرة.‏

من هذا المنطلق، نرى أن المرحلة المُقبلة ستشهد ارتفاعًا في الأسعار سيكون له نتائج سلبية على ‏مرحلتين: المرحلة الأولى تردّي فاضح في نوعية السلع والخدمات الُمقدّمة من قبل التجار، والمرحلة ‏الثانية عدم قدرة المواطنين على الحصول على بعض السلع والخدمات نتيجة الإرتفاع في أسعارها. لذا ‏من الضروري على حكومة الرئيس ميقاتي أن تعمد إلى وضع خطّة لمواجهة هذا السيناريو – شبه الأكيد ‏‏- والذي سيرفع من نسبة الفقر ويزيد من دولرة الإقتصاد ومن تعلّق المواطنين اللبنانيين بالمساعدات ‏سواء كانت من المغتربين اللبنانيين أو من المجتمع الدولي.‏

دولار السوق السوداء

في هذا الوقت يستمر دولار السوق السوداء في الإرتفاع تحت تأثير عوامل أبرزها بعيدة عن اللعبة ‏الإقتصادية. وإذا كان الخللّ البنيوي في الإقتصاد والمالية العامة واستطرادًا في الكتلة النقدية له تأثير ‏جوهري في فقدان العملة الصعبة في لبنان، إلا أن العوامل السياسية والمضاربة، أصبحت هي المتحكّم ‏الأساسي في هذا السعر الذي أصبح خارجًا عن المنطق الإقتصادي في تحركاته اليومية. وبغض النظر ‏عن تحريك سعر السوق السوداء في الليل وخلال نهاية الأسبوع وفي الأعياد، لا يمكن تفسير الطلب الكبير ‏على الدولار الأميركي حاليًا بمنظور إقتصادي خصوصًا أن هناك ضخّا للدولار من قبل مصرف لبنان ‏وسحباً للعملة الوطنية من الإقتصاد! وبحسب المعلومات التي يتمّ تداولها، هناك عملية تهريب للدولارات ‏تتمّ حاليًا خارج لبنان بالإضافة إلى تخزين من قبل بعض القوى السياسية للدولارات بهدف الإنتخابات ‏النيابية المُقبلة.‏

معضلة الانتخابات – التحدّي المالي

إهتمام القوى السياسية بالإنتخابات النيابية دفع بالحسابات السياسية والإنتخابية لأخذ الأضواء على حساب ‏المعالجة المالية للأزمة الحالية. فالتحاليل تشير إلى أن التحدّي المالي للدولة اللبنانية هو الأخطر نظرًا إلى ‏أن لبنان أصبح في منطقة سيكون من الصعب بعدها الحصول على ثقة المُجتمع الدولي وبالتالي تمويل ‏حاجاته من العملة الصعبة. نعم هذه النقطة هي نقطة جوهرية، وإذا ظنّ البعض أنه بإمكان لبنان الحصول ‏على الأموال ساعة يشاء، فهذا خطأ فادح لأن الثقة الدولية بالدولة اللبنانية أصبحت على المِحكْ، وبالتالي ‏لن يكون بمقدور لبنان بعدها الإقتراض من صندوق النقد الدولي أو من أي دولة أخرى.‏

مصداقية الدولة اللبنانية تمّ ضربها مع الأداء المالي السيىء للحكومات المـتعاقبة خلال العقود الماضية، ‏لتأتي بعدها حكومة الرئيس حسان دياب وتعزل لبنان ماليًا عن العالم عبر وقف دفع سندات اليوروبوندز، ‏بالإضافة إلى عجز المجلس النيابي عن إقرار القوانين المالية (قانون الكابيتال كونترول مثلًا في أحلك ‏الأوقات) التي تعتبر عنصراً جوهرياً في الثقة العالمية (والمحلية) بالأداء المالي للدولة اللبنانية.‏

يذهب البعض إلى القول ان الثروة الغازية التي ينعم بها لبنان ستنقذه من أزمته الحالية. إلا أن هذا البعض ‏نسي أن الطاقة البديلة بدأت تصبح أقلّ كلفة وهناك العديد من الدول في العالم (حتى المنتجة للنفط) بدأت ‏تنفيذ خطط لإدخال الطاقة البديلة في عروض الطاقة المتوافرة (‏Energy mix‏). هذا الأمر يعني أن ‏الغاز المتوقّع استخراجه في أحسن الأحوال في غضون 7 سنوات، لن يكون بالقيمة المتوقّعة منه حاليًا.‏

من هذا المنطلق هناك ضرورة قصوى لبناء إقتصاد قوي ومُتنوّع بغض النظر عن الثروة الغازية. وهذا ‏الأمر مستحيل في ظل دوام هجرة الأدمغة واستخفاف أهل السياسة بهذا العامل المدمر للاقتصادات ‏الناجحة فضلاً عن المتهالكة. وبالنظر إلى الدول المنتجة للنفط والغاز، نلاحظ أن هناك مشاريع لتنويع ‏الإقتصاد وزيادة نسبة الإقتصاد غير النفطي في الناتج المحلّي الإجمالي ، إضافة إلى الاهتمام الجدي ‏بتطوير الثقافة المجتمعية ورفع رأس المال البشري واستقطاب الثروات والأدمغة المحركة للاقتصادات . ‏فما عسى القيمون في لبنان فاعلون؟

Leave A Reply