مئوية وديع الصافي… {عملاق لبنان} رحل مكسور الخاطر

مائة عام على ولادة عملاق لبنان وديع الصافي. 1 نوفمبر (تشرين الثاني) 1921 – 1 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021. كان لا يزال في باريس قبل العودة في التسعينات. لمحه نجله جورج الصافي شارد الذهن، حزيناً، وهو يقرأ الصحف ويتحسّر على الاشتعال. سأله: «ماذا دهاك يا أبي؟»، فأجاب: «يبدو أنني أساعد المُفترين على الوطن والأشرار في حقه. أنا المذنب. أمضيتُ سنوات في الغناء للطبيعة والبحر والجبل، وللفكرة النموذجية على المتوسط. كنتُ أصنع إعلاناً عن وطن فريد، فاستغلّوا الدعاية وهشّموا جماله».

تحاور «الشرق الأوسط» الابن الذي يتنهّد في الممرات بين الكلمات والذكريات. تمتثل صورة والده أمامه بشموخ، وهو يتذكر الإنسان الحنون والمسؤول، والفنان الذي «صوته في يده، يطوّعه على هواه»، كما قال الموسيقار محمد عبد الوهاب في مديح الحنجرة المذهلة.

يكرّمه مهرجان الموسيقى العربية في مصر بدورته الثلاثين. فنسأل جورج الصافي عن احتفاء «أم الدنيا» بالمئوية، فيما لبنان ينشغل بسحق المقيم والمغترب. يناديها «الحبيبة»، ويجيب: «إن قصَّر الأخوة، فتعويض الأم يكون مؤثراً». يقدّر «اللفتة الكبيرة من دولة كبيرة»، ويرجو هدوء الأحوال في لبنان، فيكرّم المعنيون الرسميون بالثقافة والفنون، الكبار. ومن باب التفهّم، يوضح: «المئوية ليست محصورة بيوم عيد ميلاده. هي السنة كاملة. قد يستدركون ويهتمّون».

ليست المسألة شخص وديع الصافي، بل الوفاء لعطائه المشرّف. وهي في رأي ابنه «توريث الشعلة للأجيال القادمة». يخشى انطفاء الوهج، ويشعر بالمسؤولية حيال الإبقاء على الفن الرصين، مقابل سطوة الأغنية الهابطة. همُّه الجيل الشاب؛ أي غناء سيرث وأي قيم فنية؟ يقلقه اندثار الإرث، ولا يستخفّ بمحكمة التاريخ: «سخّر وديع الصافي الفن لاختزال القيم عبر صوته وموضوع الأغنية ومستوى اللحن. خيرُ الأجيال في حفاظها على الأصالة، وإلا لن يبقى ما نتأسّف عليه».

تشتاق له الجبال وصخورها، و«قطعة السماء» التي كانت يوماً «جنة على الأرض». ليس لبنان القهر، ذلك اللبنان الممجّد في حنجرته. فيا أستاذ جورج، ماذا كان ليغنّي الوالد لو أنه لا يزال موجوداً بيننا؟ لأي لبنان؟ لأي جمال وسط الفداحة؟ قبل الإجابة، يؤكد: «لم يكن وديع الصافي كاذباً. غنّى لبنان بصدق. كان لنا وطنٌ آخر قبل الخراب». يُذكّر بأنّ الراحل الكبير هو أول من أطلق الغزل بلبنان في الأغنية: «كان حامل الشعلة في الغناء للوطن والعائلة والقيم».

يخبرنا بأنه واجه اعتراضات وانتقادات. وكثيرون لم يتقبّلوا مطرباً لبنانياً يخرق آنذاك مزاج الموال البغدادي والأغنية المصرية. لقد اقتصر الغناء اللبناني في بدايات والده على بعض العتابا وموال «أبو الزلف». إلى أن صنع وديع الصافي قوالب جديدة للأغنية وأدخلها إلى جميع المنازل: «فعل ذلك بإصرار صلب. كافأه الله بالقدرة على الاستمرار ومجابهة الصعوبات. يكفيه فخراً اختيار أغنياته حين يريد أي مطرب إثبات براعته».

نعيد جورج الصافي إلى سؤال: ماذا كان ليغنّي وسط الحماقات المتمادية والارتكابات الرعناء؟ ردُّه أنّ المأزق اللبناني ليس جديداً، ويتخطّى كونه ابن عامين أو ثلاثة: «الأزمة قديمة، ولقد أدرك المصير اللبناني الحزين وتألم بسببه. رحل وديع الصافي مكسور الخاطر. لم يتوقّف عن التأمّل بالخيّرين لإصلاح الوضع».

يمرّ موّال «يا مهاجرين ارجعوا» على شكل دندنة صامتة في الرأس أثناء الحوار. يا للوجع، وشباب لبنان يهاجرون بالآلاف ولا يلتفتون إلى الوراء! فقط، يلوّحون للنجاة. فهل لا يزال نداء «ارجعوا» نبيلاً في الفواجع، أم أنّ الرحيل بات فرصة لنفض اليأس؟ يُذكّر بأنّ تاريخ اللبنانيين مع الهجرة طويل، لضعف الدولة في فرض هيبتها وضبط استباحة الجيوش الخارجية لساحاتها. وديع الصافي وعائلته هاجروا أيضاً في الحرب. ثم عادوا. وقد تكوّنت لدى نجله قناعة: «الهجرة ليست أبدية. يغادر الشباب ويعودون. أما خسارة الوطن فلا تُعوّض».

والآن، إشكالية مستقبل الفن. هل يطمئن جورج وديع الصافي إلى الأصالة الغنائية أم لديه تخوّفاته؟ يحمّل بعض شركات الإنتاج مسؤولية رفضها التمسّك بالجانب الثقافي وما يحاكي خصائص الشعوب العربية، لأغراض تجارية. ويتحدث عن «حملة هائلة على الثقافة العربية والعادات»، فيتساءل: «من قال إنّ تقطيع الأغنية على النسق الأجنبي هو الصح؟ الموضوع شائك ودقيق. ثمة أعمال رصينة وهادفة، هي وليدة إنتاج خاص لا تنتشر كما يجب، وليس لها دعم مادي». يكثر في رأيه المغنّون والملحنون، وتكثر الأغاني، «لكن ماذا يبقى إن طغى الانحدار؟». يتمنّى على الفنانين الجدد الالتفات بعض الشيء إلى الوراء. فذلك يشبه موضة البيوت المصممة على عجل أو تلك البلاستيكية: قد تبدو جميلة ولافتة، لكنها لن تصمد أمام الريح. ستقتلعها العاصفة الأولى. «هذا مصير الأغنيات المُسلّعة. ستنطفئ مهما اشتعلت».

ويفضّل ألا يتذكر قسوة المرض وأسى الإنسان في إدراك الشيخوخة. يؤمن بحكمة الله، ويلمح صورة الأب وهو يطوي صفحات العمر الأخيرة باختراع البسمة والتمسّك بالإيجابية: «كان يحضّرنا نفسياً: إياكم والزعل حين أرحل. لا أريدكم أن ترتبكوا. ولا تنسوا من هم في حاجة إلى مساعدة».

أعوام على الرحيل، وفراغه لا يملؤه أحد. ماذا عن وديع الصافي الأب والجد؟ يبتسم نجله، فتقاطع الابتسامة حسرات الفراق. يذكره أباً لم يتنازل عن دوره مع أولاده وأحفاده: «كان حنوناً، كصفحة بيضاء بين الناس، يعبّر عما في قلبه ولا يمثّل أدواراً. حاول أن يشبّع نظره بأولاده وأحفاده. وحين استلزم الأمر إبداء الرأي وإسداء النصيحة في الفن والحياة، لم يحد يوماً عن الموضوعية. كما أنه لم يكن يؤجل الأمور خشية من أن تبرد. اعتراضه على الأخطاء مُكلل بالحنان والمسؤولية. اشتقتُ له ولرائحته».

Follow Us: 

فاطمة عبد الله – الشرق الأوسط

Leave A Reply