السعودية… نعم للفراغ!

 عبدالله قمح – ليبانون ديبايت

القاعدة السياسية الحالية أو المسار الخليجي المتّبع تجاه العاصمة اللبنانية يفيد بالتالي: كُلّما اشتدّت في مأرب ستشتدّ في بيروت! والعكس صحيح، وبالتالي بات “الحلّ اللبناني” محكومٌ في مجال الربط بين الملفين اليمني واللبناني.

تأسيساً على ذلك لم تعد تكفي السعودية إستقالة وزير الإعلام جورج قرداحي ولا حتى وزير الخارجية عبدالله بو حبيب، في ضوء الدخول الإستخباراتي السعودي إلى المجال الحيوي اللبناني، للإستثمار في مجال توسيع الخلاف. وربّ قائل أنه وحتى استقالة الحكومة بجميع أعضائها ومكوّناتها ليست مطلوبة ولو أن الإطاحة بها تقع في صلب جدول الأعمال السعودي. إذاً ما المطلوب؟ باختصار، تقويض حضور “حزب الله” ضمن هيكلية الدولة من الحكومة ونزولاً!

قبل مدة، ولعلّه حين بدأ التقارب الإيراني – السعودي في بغداد، بعثت الرياض عبر وسيط بطلب إلى “حزب الله” بضرورة فكّ ارتباطه الإعلامي مع الحوثيين. بدا للحزب أن الهدف من وراء الرسالة إنهاء العلاقة القائمة مع قناة “المسيرة” اليمنية و باتجاه أشمل مع الإعلام الحربي اليمني، وإنهاء حضور الأولى في بيروت. طبعاً تجاهلت الضاحية المطلب على اعتبار أن الرياض ترعى قنوات إعلامية أكثر فتكاً بحق الحزب، فلماذا نتنازل؟

هذا يوحي عملياً بمقدار الحساسية السعودية البالغة من الحزب تجاه الملف اليمني، ولو نالت السعودية ما تبتغيه من الحزب يمنياً، لفكّت حصارها عن لبنان! وبمقاربة أشمل، لعادت في أدبيات العلاقة مع الحزب إلى ما قبل عام 2011.

الحملة السعودية الحالية تصبّ في هذا الإطار إذاً. على لبنان أن يعاني طالما أن الحزب يؤازر يمنياً. يعني ذلك أن قرداحي وسواه باتوا خارج الحسابات السعودية بضوء كلام وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، حول الشروط والأهداف المطلوب تحقيقها من لبنان، وفي ضوء الإدراك اللبناني الحسّي بأن كل ما يجري ليس محض تصريح أو صدفة بل ذريعة، والرياض تسعى لأقصى استفادة سياسية ممكنة من وراء ما يجري.

عملياً، السعودية لا تريد حكومةً في لبنان وهذا واضح. لقد عقدت العزم منذ مدة طويلة على “بتر العهد” الحالي عبر اعتماد سلسلة إجراءات: حصار سياسي استتبع بحصار اقتصادي/تجاري والآن حصار ديبلوماسي. السعودية تعتقد أن المسار السياسي اللبناني الحالي مرهون أو أنه واقع في يد “حزب الله”. والحزب نفسه متهم بالإشراف على الحوثيين في اليمن، يعني أنه يُتّهم من جانب السعودية بشنّ العدوان عليها، وبالتالي كلما تضايقَ السعوديون في اليمن ، على الحزب ومن خلفه كامل الشعب اللبناني المعاناة، طالما أن لا قدرة للبنان على وأد قدرة “حزب الله”. من هذا الموقع أذاع وزير الخارجية عبدالله بو حبيب، في تسجيله المسرّب بأن “حزب الله قوة إقليمية ومكون لبناني ونحن لا نستطيع ان نعطيهم رأسه”، كأنه يردّ التساؤل إلى السعودية أو أنه يجيب على أحد مطالبها.

إذاً نحن هنا أمام أجندة سعودية كاملة ومتدرجة. يستوحى من هذا الحديث أن اعتقال رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، في “الريتز” ذات تشرين يصبّ ضمن نفس الهدف، وهذا صحيح. يومها، كانت السعودية تريد إنهاء التسوية الرئاسية التي وضعت الحريري إلى جانب ميشال عون شركاء في الحكم ومن خلفهم يقف الحزب كسند. ما حصل يومها أن جبران باسيل بمعاونة “حزب الله “وأقلية غير راغبة في إنهاء الحريري سياسياً ضمن تيار “المستقبل” تحرّكوا باتجاه الغرب حتى يؤمنوا شبكة حماية للحريري وهذا ما حصل. على نحوٍ مشابه يتكرّر اليوم من جانب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، الذي يستعين بالغرب من أجل حماية حكومته من الخليجيين العرب، ولا بدّ أن ذلك قد تسبّب بحالة امتعاض سعودية.

والمحاولات السعودية ما هدأت. يوم أعلن سعد الحريري نفسه “مرشحاً طبيعياً” لتأليف حكومة، كان يمنّي النفس بـ”دفعة فرنسية” تجاه السعودية للتخفيف من القيود عليه. ولعل رئيس تيار “المستقبل” كان يطمح إلى إعادة تنصيب نفسه حليفاً للرياض أو أقلّه تصحيح علاقته معها من بوابة الدفع الفرنسي ورئاسة الحكومة. طوال 10 أشهر لم تقتنع الرياض بالحريري وأسرته بفيتو رافض لتأليفه الحكومة، ولم يتكلّف السفير وليد بخاري في تنظيم ولو زيارة صغيرة إلى الحريري أو حتى السماح له بزيارة السفارة (كذلك يفعل مع ميقاتي ونفس الاسلوب مورس بحق حسان دياب)، وحتى التدخل الأميركي يومها لم ينفع. في نهاية المطاف اختلق الرجل حجةً وخرج عبرها من دائرة التكليف دون أن يؤلّف، وما جنته السعودية أن عطّلت ولادة الحكومة وبالتالي العهد طيلة 10 أشهر أضيفت إلى رصيد العرقلة التي افتعلتها منذ 2016.

الحال نفسه اليوم يواجهه الرئيس نجيب ميقاتي. يدرك الرجل في سرّه أن السعودية لا ترغب به رئيساً لمجلس الوزراء. تقاطعه بالإستدلال إلى كلام الوزير بو حبيب. يدرك ميقاتي وغيره ولو شاؤوا عدم النطق أن ثمة محاولة سعودية واضحة لضرب الحكومة، والمشهد اليوم يشبه ما حدث وجرى مع الحريري. يدركون أن التوازنات الداخلية غير مقبولة سعودياً ومطلوب إعادة تكوينها. يجزمون أن الرياض ترفض منح الحكومة الميقاتية تأشيرة دخول. منذ البداية، اعتبر السعوديون أن الحكومة الحالية تعبّر بشكل من الأشكال عن نفوذ “حزب الله”، وإنما تشكّلت “غصب عنهم” وبدافع قوي فرنسي تحديداً وبمشاركة فاعلة وواضحة المعالم مع “حزب الله”، وعليه توصلت إلى خلاصة بوجوب عدم استمرار هذه الحكومة ولا بدّ أن تسقط، لكون “الراعي السني” في لبنان اتخذ قراراً منذ مدة طويلة أن لا حكومات في عهد ميشال عون.

المطلوب سعودياً باختصار، إنهاء العهد باكراً، أي إنهاء ميشال عون والحزب. المطلوب أن لا يحكموا، مطلوب الإقتصاص منهم شعبياً وفي صناديق الإقتراع. ومطلوب أن يختم العهد حضوره بفراغ، ساعة لا تسود حكومة إلا مبتورة وربما قرأ النائب جبران باسيل ذلك باكراً ، فمضى إلى الإعلان أن العهد “باقٍ مش سنة، سنين”. قد يقول قائل أن الثنائي الشيعي أسهم في تقويض عمل الحكومة عبر أسرها بشرنقة “عنبري المرفأ و الطيونة”، وقدم خدمةً للسعودية. قد يكون ذلك صحيحاً إنما المفارقة أن الخلاف الشيعي مع الحكومة موضعي وحلّه ليس صعباً وما أسرعه، وبالنتيجة هو تفصيل داخلي بخلاف الوضعية مع السعودية.

رغم كل الصعوبات، يحاول ميقاتي استباق الأمور. حراكه يستبطن رغبةً في فكفكة الذرائع، وعلى الأرجح يعتبر نفسه متحرراً من الضغوط السعودية الإقتصادية، لكن ماذا عن السياسية؟ يعوّل رئيس الحكومة إلى حينه على “الظهير الفرنسي” وما سمعه أميركياً في غلاسكو. من جهة أخرى يعدّ مصدر ارتيابه متأتياً من نادي رؤساء الحكومات. صحيح أن “النادي” لا يصنّف ضمن الفئات الأكثر قوة في البلاد، لكن موقف أعضائه مؤثّر نسبياً على وضعية ميقاتي سنياً. يعتقد ميقاتي أن البساط بدأ يُسحب من تحته، لذلك يعمل من جهة أخرى على توطيد علاقته بدار الفتوى على أمل مؤازرته في مسعاه الحالي كما آزرت الحريري لحظة اختطافه.

Leave A Reply