القلق من التفلّت وتفاقم السرقات يدفع اللبنانيين الى الأمن الذاتي

سلوى بعلبكي – النهار

صحيح ان الامن الذاتي مكلف جداً، بدليل ان الطلب عليه ارتفع بنسبة 400 في المئة، لكن لم يتحقق منه الا 40 في المئة بسبب ازدياد تكلفته، وارتفاع اسعار الدولار، فاقتصر على بعض السياسيين والمصرفيين ورجال الاعمال، لكن الارقام تبيّن ازدياد اللجوء الى الامن الخاص، بدليل أنه قبل العام 2005 لم يكن يتجاوز عدد شركات الامن الخاص 18، فيما يبلغ عددها اليوم 60 شركة. وتضم هذه الشركات مجتمعة قرابة 25 ألف عنصر أمني خاص، وهذا العدد يوازي عدد عناصر قوى الأمن الداخلي نفسه تقريبا.

“إذا لم يتوافر الخبز للفقراء… لن يتوافر الأمن للأغنياء”، هذه المقولة تُنسب الى المافيا الإيطالية. فكيف اذا كان الامر لا يقتصر على الخبز وحده بل يتعداه الى حليب الاطفال والادوية والمستلزمات الطبية والكهرباء والمحروقات واللحوم والزيوت و… و… وما الى ذلك من أدنى مقومات العيش الكريم؟!

لا مغالاة في القول إن لبنان أثبت فشله كدولة في تحقيق الأمن المجتمعي لمواطنيه، بكل أبعاده ومقوماته. فالتفلت الأمني الذي ارتفعت نسبته أخيرا على شكل عمليات سرقة وسطو في مختلف المناطق، بات يقلق المواطنين الذين يلحّون على السلطات بضرورة دعم وجود الأجهزة الأمنية بقوة، خصوصا في المناطق التي تتكرر فيها هذه العمليات، فيما يلمّح فاقدو الثقة بالدولة الى اعتماد الأمن الذاتي بديلاً من غيابها. ويعزز قناعة هؤلاء التمادي العشوائي في قطع الطرق تحت مبررات “الثورة”، فيما يتحول بعضهم الى مستغلي الظروف للاستيلاء على السلع والمحروقات التي يصادف مرورها، وما حصل الاسبوع الماضي في البداوي دليل على ذلك.

وليس خافيا أن التظاهرات المتكررة وما يرافقها أحيانا من غضب وممارسات عنفية متبادلة بين بعض المتظاهرين والسلطة، ادت إلى زيادة النقمة الشعبية والأحقاد حيال رجال الأمن من جهة، ورجال السياسة من جهة أخرى، بما اضطر بعضهم إلى اتخاذ تدابير أمنية ذاتية على نفقتهم الخاصة ووفق خطط واستراتيجيات امنية بعيداً من رقابة السلطة او الاجهزة الامنية.

وإلى المخاوف من ارتفاع نسبة السرقة والتعديات، ساهم انفجار مرفأ بيروت في زيادة الطلب على وسائل الامن، ومنها الطلب على الزجاج المصفح للمؤسسات والمنازل بنسبة أكثر من 400% عما كان عليه قبل عامين، كذلك على أجهزة الحماية والإنذار من مؤسسات ومخازن مواد زراعية أو كيمياوية قابلة للاشتعال أو الانفجار.

في واقع الامر، ان كلفة الامن الذاتي في لبنان مرتفعة نسبيا، بسبب ارتفاع منسوب الاخطار وما تختزنه الذاكرة السياسية من اعمال اغتيال واعتداءات حصلت في الماضي القريب والبعيد. لذا، فإن أقل من 1% من اللبنانيين يمكنهم الإعتماد على الامن الذاتي. فالحد الادنى لراتب مرافق شخصي محترف لا يقل عن ألف دولار أميركي نقداً، ناهيك بعدد المرافقين والسائقين وكلفة تصفيح السيارات واجهزة الاتصال والتأمين وغيرها. ولائحة الاسعار لدى احدى الشركات المتخصصة في مجال التحصين الامني تدل على ان كلفة تحصين شقة بمساحة 200 متر مربع بالباطون المسلح والزجاج المصفح لا تقل عن 50 ألف دولار نقداً، فيما تصفيح السيارة العادية يراوح ما بين 60 ألف دولار و100 ألف نقداً (بحسب نوعية التصفيح). أما سعر السيارة المصفحة المستوردة فيراوح ما بين 200 ألف دولار و500 ألف.

إذاً، ما يعيشه اللبنانيون اليوم من فقدان لأدنى المتطلبات والحاجات الاساسية، كان دافعا لخوف بعض رجال الأعمال والمصارف والشركات الكبرى، وخصوصا رجال السياسة وقادة الاحزاب، على أمنهم وأمن عائلاتهم، مما رفع الطلب على تحصين الأمن الذاتي بنسبة تفوق 400%، بيد أنه لم يتحقق منه إلا أقل من 40% فقط، بسبب الكلفة المرتفعة، وفق ما يقول الباحث والخبير في المجالين الامني والعسكري حسن الحريري لـ”النهار”.

ولكن ما المقصود بالأمن المجتمعي؟ يشرح الحريري أن “الأمن المجتمعي هو توفير الأمن والاستقرار في المجتمع، بحيث يستطيع الأفراد ممارسة حياتهم الاعتيادية، إذ إنّ التنمية والإبداع لا يزدهران إلا في حال وجودهما. من هنا يمكن القول إن الأمن المجتمعي يوازي التنمية، ويرتبط بالاستقرار. وهو حاجة أساسية لبناء المجتمع الإنساني، وضمان استقراره والحفاظ على هويته الوطنية في وجه الأخطار الداخلية والخارجية على أشكالها”.

وفي ظل ما يشهده لبنان من تطورات اقتصادية وامنية، وعلى رغم تدهور القوة الشرائية للبنانيين، نجد ان حجم اعمال قطاع الحماية الامنية في لبنان الى ارتفاع، بدليل أنه قبل العام 2005 لم يكن يتجاوز عدد هذه الشركات 18، فيما يبلغ عددها اليوم 60 شركة، متفاوتة الأحجام. وتضم هذه الشركات مجتمعة قرابة 25 ألف عنصر أمني خاص، وهذا العدد يوازي عدد عناصر قوى الأمن الداخلي نفسه تقريبا، وفق ما يشرح الحريري الذي يوضح أن “هذه الشركات توفر خدمات أمنية متنوعة، أبرزها الحراسة الشخصية، وسترات الوقاية من الرصاص، وتوفير آلات رصد المواد المتفجرة، ونقل المال النقدي وحماية المؤسسات على اختلاف أنواعها”.

واللافت أن “غالبية مديري هذه الشركات هم ضباط متقاعدون يتمتع معظمهم بمروحة واسعة من العلاقات المدنيّة والأمنية، بحكم عملهم السابق، تمكنهم من توفير الزبائن وفريق العمل المنضبط. وتفضل الشركات الأمنية عادة اعتماد متقاعدي الأجهزة الأمنية للعمل فيها، بهدف التوفير في ما يتعلق بتدريب الكوادر، إضافة إلى تمتع العسكريين بانضباطية عالية والتزام بالعمل”.

ولكن ما هو نوع التهديدات الامنية المستجدة التي نواجهها؟ يوضح الحريري أن “التظاهرات في الشوارع أدت الى زيادة النقمة والأحقاد تجاه رجال السياسة والأمن، فضلاً عن تشدد الأجهزة الأمنية في التدابير المتخذة حفاظا على هيبتها. ونظرا الى اللحمة الاجتماعية في لبنان والتقارب بين رجال السياسة والامن والأعمال والجسم القضائي، اضحى من الضروري لهم، في وجه النقمة الشعبية، اتخاذ إجراءات أمنية ذاتية على نفقتهم الخاصة، علما بأن السلطات لا تؤمّن لهم هذه الحماية الأمنية المباشرة”.

ومعلوم أن الأمن في لبنان يحمل طابعا سياسيا، إذ اننا نفتقر إلى الأمن المجتمعي وهو الخوف الاكبر لدى كل اطياف المجتمع. وعلى رغم الجهود الحثيثة التي تبذلها الأجهزة الأمنية بغية الحفاظ على الأمن، إلا أن حالات التخريب في الممتلكات العامة والخاصة والسرقة والخطف مقابل فدية ترتفع نسبتها نتيجة تدهور القدرة الشرائية وانتشار الفقر وغياب التربية والتنشئة المجتمعية. وهنا لا بد من تسليط الضوء على الإمكانات المحدودة للأجهزة من حيث العتاد والعديد لتغطية المهام المطلوبة منها في هذه الظروف الصعبة.

مَن يطلب الحماية… وكيف، وبأي وسائل؟ يوضح الحريري أن “طلب الطبقة الميسورة في المجتمع على الحماية الذاتية الشخصية المتواصلة لأفراد عائلاتها ارتفعت نسبته بشكل واضح. وهذا يعتبر تغييرا في نمط العمل، بحكم ان التعاطي مع العائلة يختلف كليا عن التعاطي مع الشخص المستهدف بنفسه، إذ إن أحداث تشرين كرست إمكانية استهداف أي شخص قريب بالتوبيخ والاعتداء بغضّ النظر عن العمر والمكان والزمان. وقد ارتفعت أيضا نسبة الطلب المؤسسي والفردي لتوفير الأمن الذاتي، كطلب زيادة الإجراءات الامنية الشخصية المسموح بها والتي تشمل السيارات المصفحة، والزجاج المضاد للرصاص، والمرافقين، وتبديل محل الاقامة ومنطقة السكن، خصوصا في حال كانت معرضة للتوترات. وقد وصل الامر الى ان يبتعد رجال السياسة والأمن عن الاختلاط العام. اما المؤسسات فتبحث عن حماية منشآتها ومخازنها ودور العرض، عبر اقامة حدود محصنة غير ملاصقة للمباني ومحمية بنقاط مراقبة وحراسة على مدار الساعة، مثلما تفعل لجان المباني خصوصا تلك الموجودة في النقاط الساخنة للتظاهر او القريبة من منازل السياسيين”.

هل للشركات الامنية دور في حماية المدن؟ يشرح الحريري أن “الشركات الأمنية غير مخولة حماية المدن، بل يقتصر دورها على حماية الأشخاص أثناء التنقل، وحماية المنشآت الثابتة ضمن حدود المنشأة التي تسمح بها الدولة التي تضع ضوابط عدة منها عدم إنشاء شركات أمنية مرخصة لاستخدام السلاح باسم الشركة. فهذه المهمة منوطة بالأجهزة الأمنية فقط على رغم تكامل عمل هذين الكيانين في إطار تنسيق وثيق بينهما، وتحت إشراف وزارة الداخلية التي تراقب عمل هذه الشركات. لكن أعضاء لجنة الدفاع النيابية لا يجدون ما يستحق الإثارة أو البحث في هذا الملف، خصوصاً أن القانون اللبناني لا يمنع المواطن من اتخاذ الإجراءات الكفيلة بحمايته. والترخيص المعطى للشركات يفرض عليها ألا تشكل رديفا للأجهزة الأمنية الحكومية، وألا تستقوي عليها”.

هل يصبح لبنان كجنوب أفريقيا؟

تكثر في جنوب أفريقيا معسكرات التدريب، ويُسمح بإعطاء الرخص للمرافقة المسلحة بحيث يناهز عديد الامن الخاص المسلح الـ 600 ألف عنصر في مقابل 200 ألف عنصر للشرطة المحلية. وفي ظل ارتفاع المخاطر في لبنان ثمة مَن يتخوف من ان يصبح كجنوب أفريقيا، إلا أن الحريري يستبعد الامر: “يجب ألا يصل لبنان الى مثل حالة جنوب افريقيا او ايّ من الدول التي تسمح بإقامة شركات الأمن الذاتي المسلح. فهذا الوضع يصبح أمرا واقعا في حال انحلال مؤسسات الدولة وانتشار مناطق الحكم الذاتي. وحتى اللحظة، لا يزال لبنان يتمتع بحالة امنية اجتماعية ممسوكة إلى حد ما تحمي الوطن والمواطن…”.

Leave A Reply