الديار : تحدٍ جديد يُواجه اللبنانيين… المصارف المراسلة تُقفل حسابات المصارف ‏اللبنانية الأمن الغذائي في خطر ومخاوف من عدم القدرة على استيراد السلع ‏والمواد الأوّلية

جاء في صحيفة ” الديار ” : المصرف المراسل‎ (Correspondent Bank) ‎هو عبارة عن مصرف أو مؤسسة مالية في ‏بلد أجنبي، يُقدّم خدمات مالية ومصرفية إلى مؤسسة مالية أو مصرف محلّي. وتنصّ مُهمّة ‏المصارف المراسلة على العمل كوسيط أو وكيل عن المصرف المحلّي، وبالتالي تسهيل ‏التحويلات الإلكترونية وإجراء المعاملات التجارية، وقبول الودائع، وتجميع المُستندات وغيرها ‏من الخدمات المصرفية والمالية. وبالتالي فإن عمل المصارف المراسلة أساسي ويؤثر على الأمن ‏الغذائي في البلدان التي تعتمد على الإستيراد لتلبية حاجات الغذاء المحلي. واما بشكلٍ عام، فيتمّ ‏عادة إستخدام خدمات المصارف المراسلة للوصول إلى الأسواق المالية وأسواق السلع والبضائع ‏‏(تَتْميم الشِقّ المالي) بدلا من أن يقوم المصرف المحلّي في فتح فروع له في البلدان الأخرى‎.‎

ومن أهمّ الخدمات التي تقدّمها المصارف المراسلة: تحويل الأموال، دفع الأموال، التحقّق من المقاصة، ‏التحاويل الإلكترونية، شراء وبيع العملات، شراء وبيع أدوات مالية، التحوّط، تأمين الأموال لعملاء ‏المصارف المحلية في حال سفرهم إلى الخارج، إدارة المحافظ…هذه العمليات تتمّ من خلال حسابات ‏مصرفية تفتحها المصارف المحلّية لدى المصارف المراسلة وتُسمّى هذه بحسابات ‏Nostro‏ (حساب ‏البنك المحلي لدى المصرف المراسل) وVostro‏ (حساب البنك المراسل لدى المصرف المحلّي) حيث ‏يحتفظ كلا المصرفين بحسابات لبعضهما البعض بهدف تتبع العمليات المصرفية والديون والإئتمانات بين ‏الطرفين.‏

تلعب المصارف المراسلة دورًا محوريًا في عالم المال والإقتصاد، إذ أنها توفر وسيلة عملية للمصارف ‏المحلّية للعمل عندما لا يكون لهذه الأخيرة فروع في الخارج. وبما أن العنصر الأساسي في عملية التعاون ‏بين المصارف المحلية والمصارف المراسلة مبني على التحاويل المالية، يتم تنفيذ هذه التحاويل من خلال ‏شبكة الاتصالات المالية العالمية بين المصارف المعروف بنظام ‏SWIFT‏.‏

العقبة الأساسية لأي مصرف محلّي لفتح حساب لدى مصرف مراسل تكمن في إستيفاء شروط المصرف ‏المراسل نظرًا إلى أن قسمًا من هذه الشروط ذاتي (له علاقة بالمصرف المحلّي مثل إجراءات مكافحة ‏تبييض الأموال وتمويل الإرهاب) والقسم الآخر له علاقة ببلد المصرف المحلّي (‏Country Risk‏). ‏وبالتالي يأتي تصنيف البلد المحلّي ليُشكّل العقبة الأساسية بحكم أن القاعدة في العالم المصرفي أنه لا ‏يُمكن لأي مصرف أو مؤسسة مالية أن يتمتّع بتصنيف إئتماني أعلى من التصنيف الإئتماني للبلد. وتفرض ‏القوانين في العديد من البلدان على المصارف المراسلة أن يكون التصنيف الإئتماني لبلد المصرف ‏المحلّي أعلى من تصنيف مُحدّد يختلف بحسب القوانين ويكون خاضعًا لموافقة مُسبقة من قبل السلطات ‏الرقابية المصرفية.‏

مخاطر الدولة

تلعب مخاطر الدوّلة (بلد المصرف المحلّي) أو ما يُعرف بالـ ‏Country Risk‏ دورًا أساسيًا في تحديد ‏العلاقة بين المصارف المراسلة والمصارف المحلّية بالإضافة إلى إجراءات مكافحة تبييض الأموال ‏وتمويل الإرهاب. فإرتفاع مخاطر الدوّلة يُصعّب على المصارف المراسلة قبول التعامل مع المصارف ‏المحلّية ويجعله مكلفاً، أو قد يؤدي في بعض الأحيان إلى إيقاف التعامل مع هذه المصارف. هذا الأمر نابع ‏من المخاطر المالية التي يُمكن للمصارف المراسلة تكبّدها في حال تعاملت مع مصارف محلّية في بلدان ‏ذات مخاطر عالية. بمعنى أخر، تواجه المصارف المراسلة معضلة تحقيق التوازن بين الحفاظ على ‏علاقاتها المالية بهدف تحقيق أرباح من جهة، وتلبية متطلبات العناية الواجبة وإرتفاع تكاليف الإمتثال ‏لقوانين بلادها من جهة أخرى. وبالتالي ومع ارتفاع المتطلبات التنظيمية والرقابية على هذه المصارف ‏وإرتفاع تكاليف الإمتثال، تقوم هذه المصارف بعملية تجنّب المخاطر أو ما يُعرف بالـ ‏de-risking، ‏وتحوي هذه العملية على وقف تعاملها مع بعض المصارف المتواجدة في بلاد ذات مخاطر عالية.‏

وبالتالي تأتي عملية تقييم مخاطر الدوّلة كعنصر أساسي في عمل المصارف المراسلة حيث يتمّ أخذ العديد ‏من الأبعاد في هذه العملية:‏

أولا – المخاطر الإقتصادية: الثبات والملاءة المصرفية، التوقعات فيما يخصّ الناتج المحلّي الإجمالي، ‏الدين العام نسبة إلى الناتج المحلّي الإجمالي، البطالة، مالية الدوّلة، السياسة النقدية، الثبات النقدي، سعر ‏صرف العمّلة، الوصول إلى رأس المال…‏

ثانيًا – المخاطر السياسية: الثبات الحكومي، الشفافية والحصول على المعلومات، الإرهاب، الجريمة، ‏العنف، البيئة التنظيمية، حرية القوى العاملة، برامج المساعدات الحكومية للشركات، قوانين الهجرة ‏والعمل، السياسات تجاه الاستثمار الأجنبي، قوانين مُكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، قوانين ‏مكافحة الفساد…‏

ثالثًا – المخاطر الهيكلية وتضمّ الديموغرافية، البنية التحتية والإجتماعية، القوى العاملة، المنافسين، ‏المشاركة في معاهدات دولية، قوانين التصدير، قوانين الاستيراد، فرص الإنتاج المشترك مع دول ‏أخرى…‏

رابعًا – إدارة الدين العام: إجمالي الدين العام إلى الناتج القومي الإجمالي، نسبة الدين العام إلى ‏الصادرات، نسبة الحساب الجاري إلى الناتج القومي الإجمالي…‏

عمليًا تعتمد المصارف المراسلة على التصنيف الإئتماني للدولّ الذي يُعتبر مقياسًا فعّالا لمخاطر الدوّلة. ‏من هنا تأتي أهمّية إدارة المخاطر للدوّلة التي من المفروض أنها من مهام الحكومات التي يتمّ مُحاسبتها ‏في الديموقراطيات على الإجراءات التي تتخذها. الجدير ذكره أن عدم مُعالجة المخاطر المُحدقة بالدولة ‏يؤدّي إلى عواقب وخيمة وعلى رأسها الخسائر المالية الفادحة، الضرر الإجتماعي، الدعاوى القضائية، ‏وبالتالي العزلة عن المجتمع الدولي أو ما يُعرف بالإقصاء المالي.‏

المصارف اللبنانية ومخاطر الدّولة

يتعرّض القطاع المصرفي اللبناني في هذه الأيام إلى إقفال حساباته لدى العديد من المصارف المراسلة ‏نظرًا إلى ارتفاع مخاطر الدولة اللبنانية. وإذا ما قمّنا بتحديد العوامل الأساسية التي لعبت دورًا في ارتفاع ‏المخاطر، نرى أن التخبّط السياسي وإعلان وقف دفع سندات اليوروبوندز تحتل الصدارة في ظل إستمرار ‏تراكم الخسائر على الدولة اللبنانية.‏

وبحسب كتاب وجّهه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى القاضي غسان عويدات، أقفل العديد من ‏المصارف المراسلة حسابات مصرف لبنان على مثال مصرف ‏WellsFrago‏ الذي أقفل حساب ‏المركزي بالدولار الأميركي، وHSBC‏ الذي اقفل حسابه بالجنيه الإسترليني، وDanske‏ الذي أقفل ‏حسابه بالكورون السويدي، وCIBS‏ الذي أوقف كل التعاملات مع المصرف المركزي!‏

وإذا ما نظرنا إلى وجّهة نظر المصارف المراسلة، نرى أن تقيمها للوضع في لبنان أصبح سيئًا لدرجة أنها ‏تُفضّل الخروج من السوق اللبناني وذلك للعوامل التالية:‏

أولا – إنخفاض ملاءة القطاع المصرفي نظرًا إلى شحّ الدولار وهو ما يرفع من المخاطر الإئتمانية في ‏محفظة المصرف المراسل وبالتالي تُكبدّه خسائر مالية؛

ثانيًا – التخبّط السياسي الذي يمنّع الحلول الإقتصادية والمالية مما يخفّض توقّعات الناتج المحّلي الإجمالي ‏ويرفع من الدين العام نسبةً إلى الناتج المحلّي الإجمالي؛

ثالثًا – تراجع سعر صرف الليرة مُقابل الدولار الأميركي في السوق السوداء مع ارتفاع الـ ‏volatility‏ ‏وهوما يضرب الثبات النقدي؛

رابعًا – التهجّم على القطاع المصرفي ورفع دعاوى قضائية ضدّه وهو ما يضع المصارف المراسلة في ‏خطرّ تحمّل خسائر مالية نتيجة العلاقة التعاقدية والتشابك الناتج عن هذه العلاقة؛

خامسًا -الضغوطات السياسية الخارجية والتي تؤثّر على توافد الدولار إلى السوق اللبناني وتزيد من ‏القيود على نشاط المصارف اللبنانية؛

الإستيراد في خطر

مع إقفال المصارف المراسلة الواحد تلو الأخر لحسابات المصارف اللبنانية وحسابات مصــرف لبنان، ‏يظهر إلى العــلن مُشكلة إستيراد الســلع والمواد الغــذائية والأوّليــة بحكم أن عمليات الإستيراد تتمّ من ‏خلال فتح إعــتمادات لدى المصارف المراسلة. وبالتالي ففي حال إقفال المصارف المراسلة لحسابات ‏المصارف اللبنانية، هناك مُشــكلة إستيراد ستظهر إلى العلن وسيتمّ ترجمتها بنقص حاد في السلع والمواد ‏الغــذائية والأوّلية في السوق اللبــناني!‏

عمليًا هذا الأمر يعني أن الأمن الغذائي للمواطن اللبناني أصبح في خطر كبير وهنا يأتي دور القوى ‏السياسية في تحمّل مسؤوليتها بعد شلل الحكومة المُستقيلة. هذه القوى التي تُمعن في عملية تعطيل تشكيل ‏الحكومة تُساهم بشكل أساسي في تدهور الوضع الاقتصادي والمالي والنقدي والإجتماعي.وبالتالي هناك ‏إلزامية للتعجيل في إيجاد حلول لتشكيل حكومة قادرة على مواجهة الأزمة لأن القطاع المصرفي أصبح ‏عاجزًا عن مواجهة الأزمة وحيدًا.‏

ماذا إذا إستمرّ التخبّط؟

إذا إستمرّ التخبّط السياسي على ما هو عليه أي أن القوى السياسية لم تستطع تشكيل حكومة، هناك تحدّيات ‏ستواجه القطاع المصرفي وأخرى ستواجه الدوّلة اللبنانية:‏

على صعيد القطاع المصرفي، التحدي الأول يكمن في الحفاظ على مصرف مراسل على الأقلّ (‏JP ‎Morgan‏) وذلك بهدف تأمين إستيراد السلع الغذائية والمواد الأولية بحدّها الأدنى. أما على صعيد ‏الدّولة، فالتحدي يكمن في إيجاد دوّلة تقبل بالإستيراد لصالح لبنان وذلك من خلال فتح الإعتـــمادات لدى ‏المصارف المراسلة لصالح إستيراد السلع والمواد الغذائية وهو ما سيزيد الكلفة طبعًا على لبنان. هذا ‏الأمر يضع لبنان في مستوى الدول الأكثر فقرًا في العالم أجمع ويضعه تحت وصاية دولية إقتصادية ‏ومالية وحتى نقدية.‏

كما أن هذا الأمر سيزيد من شلل الحكومة المستقيلة، إضافة إلى شلل قوى السلطة الحاكمة، مما يعني ‏الانهيار الكامل للدولة والمؤسسات كافة. وبالتالي يجب على من يملك (إلى الآن) فرصة رفع هذه الكأس ‏المرة أن يبادر قبل أن تخرج الأمور حقيقة عن السيطرة الكلية.‏

في كل هذا الإطار الأسود، هناك خبر خفف من الضغط على القطاع المصرفي وهو إسقاط القضاء ‏الأميركي للدعوى التي رفعها مودع لبناني وزوجته ضد مصرف لبنان وثلاثة مصارف لبنانية لتحصيل ‏أموالهم من المصارف اللبنانية وتقاضيها في الولايات المُتحدة الأميركية. قرار القاضية الأميركية جاء ‏بتأكيد عدم صلاحيتها في البت في قضايا من هذا النوع.‏

مع الإشارة إلى أن هذا الأمر لا يعني سقوط الاحتمالات التي سبق ذكرها، وإنما يعني أن الأمر ما زال ‏قابلاً للإصلاح إذا صَلُحَت النوايا.‏

Leave A Reply