بعد نصف عقد من التعثر… هل ينجح لبنان في إعادة هيكلة ديونه؟

يواجه لبنان، بعد نصف عقد من التخلف عن سداد ديونه السيادية، مفترق طرق حاسماً قد يعيد تشكيل مستقبله المالي. وفي ظل ضغوط اقتصادية غير مسبوقة وانتعاش السندات اللبنانية، يُتوقع تجدد مفاوضات إعادة هيكلة ديونه المتعثرة بقيمة 29 مليار دولار. وبينما يزداد التفاؤل باتفاق يخرج البلاد من الجمود المالي، يبقى الطريق محفوفاً بالتحديات، بحيث يتطلب التزاماً حكومياً بالاصلاحات واستعداداً سياسياً لمواجهة الأزمات الهيكلية العميقة. فهل ينجح لبنان في استعادة ثقة الأسواق وكسر دوامة التعثر؟

مأزق المفاوضات وتعثر الحلول

في العام 2022، توقفت مفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي بعد رفض الحكومة الالتزام بالاصلاحات التي اشترطها الصندوق. أدى هذا التوقف إلى انخفاض حاد في قيمة السندات اللبنانية، بحيث هبطت قيمتها السوقية إلى نحو 6 سنتات للدولار، ما عكس فقدان الثقة بقدرة البلاد على معالجة أزمتها المالية. وتفاقمت الأزمة أكثر بعد الفوضى التي شهدها مصرف لبنان، وبلغت ذروتها مع انتهاء ولاية رياض سلامة في 2023. ومع تكليف وسيم منصوري حاكماً جديداً بالإنابة، أبقى المصرف المركزي على التعاميم لسحب الدولار بقيمة محددة، واضطرت البنوك إلى قبول إعادة رسملتها كجزء من أي اتفاق لاعادة الهيكلة. لكن مع تشكيل حكومة جديدة وبروز قيادة جديدة، بدأت تظهر بوادر انفراجة قد تفتح الطريق للعودة إلى طاولة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والدائنين الدوليين.

انتعاش السندات وتفاؤل المستثمرين

منذ وقف إطلاق النار بين إسرائيل و”حزب الله” في تشرين الثاني الماضي، شهدت السندات اللبنانية ارتفاعاً ملحوظاً، بحيث تضاعفت قيمتها ثلاث مرات لتصل إلى 18 سنتاً للدولار. ويعكس هذا الانتعاش تحسن التوقعات بشأن إمكان التوصل إلى اتفاق يعيد هيكلة الديون ويضع الاقتصاد اللبناني على مسار التعافي. وفي الأسبوع الماضي، زار وفد من صندوق النقد الدولي بيروت، حيث التقى رئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس الوزراء نواف سلام، إلى جانب عدد من الوزراء وممثلي مصرف لبنان. وأكد رئيس بعثة الصندوق، إرنستو راميريز ريغو، ضرورة وضع استراتيجية شاملة لإعادة تأهيل الاقتصاد اللبناني، مشيراً إلى استعداد الصندوق لدعم جهود الحكومة في هذا الاتجاه. وأوضح أن إعادة هيكلة القطاع المالي ستكون جزءاً أساسياً من أي خطة لإنعاش الاقتصاد، إلى جانب ضمان استدامة الدين العام.

إشكالية النموذج الاقتصادي الجديد

لطالما كان القطاع المصرفي محورياً في الاقتصاد اللبناني، لكنه تعرض لانهيار غير مسبوق بعد الأزمة المالية التي اندلعت عام 2019. وبحسب أحد مستشاري إعادة الهيكلة، فإن حاملي السندات يجب أن يكونوا جزءاً أساسياً من عملية الاصلاح. وقال: “ما هو النموذج الاقتصادي الجديد؟ بالطبع ستظل الحاجة للبنوك، لكن السؤال الأهم هو كيفية إعادة هيكلة القطاع المصرفي؟”، مشيراً إلى أن البنوك لم تعد تحتفظ بالقدر نفسه من السندات الحكومية كما في السابق. وأضاف أن الانتخابات المقررة العام المقبل قد تشكل حافزاً للموافقة على برنامج صندوق النقد الدولي ومقترحات إعادة هيكلة الديون المصاحبة له.

الدين العام.. أرقام مثيرة للقلق

وفقاً لتقييم صندوق النقد الدولي لعام 2019، كانت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في لبنان تبلغ 178 في المئة، وهو مستوى مرتفع جداً. ومنذ ذلك الحين، شهد الاقتصاد اللبناني انكماشاً حاداً، بحيث قدّر البنك الدولي أن الناتج المحلي الإجمالي قد انخفض بنسبة 40 في المئة. نتيجة لذلك، ارتفعت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو 300 في المئة، ما يجعل الوضع المالي للبلاد من بين الأسوأ عالمياً. من جهة أخرى، قدّرت دراسة للبنك الدولي هذا الشهر أن تكاليف إعادة إعمار لبنان تبلغ نحو 11 مليار دولار، وهو مبلغ ضخم بالنظر إلى الوضع المالي الحالي للحكومة اللبنانية. ومع ذلك، قد يخفف بعض العوامل من حدة الأزمة، مثل انخفاض القيمة الحقيقية للديون المحلية بسبب التضخم الجامح.

سباق لاختيار المستشارين الماليين

ومع تحسن الآفاق الاقتصادية نسبياً، يقترب حاملو السندات الدولية اللبنانية من تعيين مستشار مالي جديد لإدارة عملية إعادة الهيكلة. وقد تمت دعوة ست شركات استشارية مرموقة مثل “روتشيلد”، “نيوستيت”، “ألفاريز ومارسال”، “هوليهان لوكي”، “جي إس إيه” و”سنترفيو” لتقديم مقترحات جديدة إلى مجموعة حاملي السندات اللبنانية الخاصة. في الوقت نفسه، توفر شركة “وايت آند كيس” الاستشارات القانونية لحاملي السندات، بينما تستعين الحكومة اللبنانية بشركة “لازارد” و”كليري غوتليب” للاستشارات المالية والقانونية.

ويمتلك عدد من الصناديق الأجنبية الكبرى، مثل “أموندي”، “أشمور”، “بلاك روك”، “بلو باي”، “فيديليتي” و”تي-رو برايس”، بالاضافة إلى مجموعة من صناديق التحوط الأصغر، حصة حجب (أو ما يعرف بالـBlocking Stake وهي نسبة من الأسهم أو السندات التي يمتلكها مستثمر أو مجموعة من المستثمرين بشكل يمكنهم من حجب قرارات معينة أو التأثير على سياسة الشركة أو الكيان المالي) تتجاوز 25 في المئة في 40 في المئة من سلاسل السندات اللبنانية المتنوعة. وقد استحوذت هذه المؤسسات على معظم حيازاتها من الأوراق المالية اللبنانية، التي تقدر قيمتها بحوالي 11 مليار دولار، بخصومات كبيرة منذ بداية الأزمة، تراوحت بين 70 في المئة من قيمة الاسترداد وصولاً إلى 30 في المئة. وكان البائعون في هذه الصفقات من البنوك المحلية التي كانت تعاني من نقص في الدولارات الجديدة. ولا يزال حوالي 19 مليار دولار متبقية في حوزة البنك المركزي (5 مليارات دولار) والبنوك المحلية.

هل يمكن التوصل إلى اتفاق قريب؟

تشير التقديرات إلى أن المفاوضات المقبلة قد تكون أسرع من المحاولات السابقة، نظراً الى الزخم السياسي الحالي ووجود حكومة تبدو أكثر استعداداً للالتزام بشروط صندوق النقد الدولي. ويراهن المستثمرون على أن هذا قد يفتح المجال أمام تدفقات مالية جديدة تدعم الانتعاش الاقتصادي. ومع تضاعف قيمة السندات اللبنانية مؤخراً، فإن الأسواق تعكس توقعات إيجابية بشأن إمكان التوصل إلى اتفاق يُنهي جمود السنوات الخمس الماضية. وعلى الرغم من التفاؤل، تظل هناك تحديات كبيرة أمام إعادة هيكلة الديون اللبنانية. فالتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي يتطلب تنفيذ إصلاحات جذرية، تشمل إعادة هيكلة القطاع المصرفي وخفض الإنفاق العام، وغيرها. ومع ذلك، إذا تمكنت الحكومة من تجاوز العقبات وتطبيق الاصلاحات المطلوبة، فقد يكون لبنان أمام فرصة حقيقية للخروج من أزمة ديونه والعودة إلى مسار التعافي.

هدى علاء الدين – لبنان الكبير

Leave A Reply