الخميس, أكتوبر 3

جورج خبّاز: لهذه الأسباب طرحت جدليّة المسلم والمسيحي بفجاجة في “خيال صحرا”

على مدى شهر، عرض كازينو لبنان مسرحية “#خيال صحرا” (كتابة وإخراج #جورج خباز، بطولة جورج خباز و#عادل كرم، إنتاج طارق كرم). شهر كان الأسخن في لبنان منذ اندلاع الحرب على الحدود الجنوبية قبل عشرة أشهر. كان أمام صنّاع العمل إمّا الاستسلام لخيار التأجيل، وإمّا التحدّي والاستمرار… الكلمة الفصل كانت للخيار الثاني، فكسب صنّاع المسرحية التحدّي، وأثبت اللبناني أن لا شيء يعلو فوق إرادة الحياة، فيما أثبت جورج خباز أنّه الرقم الصعب في المسرح اللبناني، وأنّ هذا الأخير له جمهوره المخلص بالرغم من أنف الظّروف.

خلطة عبثية ما بين الحياة والموت

في حوار مع “النهار”، تحدّثنا مع خباز عن ظروف كتابة وإنتاج المسرحية، التي تدور أحداثها في سبعينيات القرن الماضي، حين كان الجرح نازفاً، والوجع حاضراً… وجع لا يمرّ عليه الزمن.

نسأله، “برأيك ما الذي يدفع اللبناني الموجوع إلى مشاهدة وجعه على المسرح؟”.

يتّفق أنّ “الوجع حاضر لكن المعالجة كوميديّة”، ويتابع: “المسرحية فيها الكثير من الكوميديا والترفيه، وفيها الكثير من المشاعر والحقيقة الموجعة؛ هذه الخلطة أعتقد أنّها تشدّ الناس. لم يعد ثمّة إمكانية لتقديم كوميديا سطحية في هذه الظّروف الموجعة. وفي نفس الوقت ليس ثمّة إمكانية لتقديم عملٍ مجبول بالوجع فحسب، لأنّ الجمهور موجوع بما يكفي؛ لذا كانت هذه الخلطة العبثية بين الحياة والموت الذي يعانيه اللبناني، ما بين إرادة الحياة والظروف الصعبة. هذه الخلطة هي التي تعطي سحراً في المسرح، خاصةً إذا كان ما نقدّمه شفافاً ومرآةً ناصعة للبيئة، من دون أي زغل أو تمركز في موضع سياسيّ معيّن. الهدف الأساسي هو حبّ هذا الوطن وجمع أبنائه بشكلٍ أو بآخر من خلال التعلّم من الماضي”.

نهاية العالم

كتب جورج خباز النّص في الحجر خلال فترة الوباء. توقّعنا قبل عرض المسرحية أن تدور بشكلٍ أو بآخر حول معاناة تلك الحقبة التي راكمت خيالات الكتّاب حول أدب نهاية العالم، غير أنّ خباز اختار أن يكتب في تلك الفترة، التي خيّل لكثيرين يومها أنّها قد تكون النّهاية، عن سبعينيات القرن الماضي، حين حمل اللبناني السّلاح ضدّ أخيه اللبناني، في دوّامة لم تنتهِ بعد.

تجربة الحجر أيّ بُعد أضافت إلى النّص؟ يقول “الحجر يعزّز الشعور بالوحدة. لكن لا تنسي أنّ الحجر في لبنان ترافق مع أزمة اقتصاديّة كبيرة جداً أثّرت علينا نفسيّاً، ثم حدث انفجار مرفأ بيروت الذي أصابنا جميعنا بـ”تروما”. في تلك الفترة أيضاً أُقفل مسرح “شاتو تريانون” بسبب كورونا، وبسبب الضائقة الاقتصادية والانفجار؛ كل هذه الأمور المتراكمة جعلتني أفرّغ كلّ وجعي على الورق”.

لبنان المثقل بأزمات لا تنتهي، لماذا العودة إلى حقبة السبعينيّات بالذات؟ يقول خباز “التاريخ يعيد نفسه. نحن للأسف لا نزال نعيش المشكلات نفسها. حاولت في المسرحية أن ألقي الضّوء على الأسباب لا على النتائج. نحن اليوم نحصد النتائج، لكن الأسباب تكمن في عدم فهمنا لإيماننا، عدم فهمنا للمواطنة، للإنسان بشكل أو بآخر. بدأت من العام 1976 مع بدايات الحرب لأقول إنّنا لم نتعلّم، وما زلنا نفكّر بنفس الطريقة ونفس الأسلوب تجاه الآخر، وتجاه أخوتنا في الوطن”.

المسلم والمسيحي… وفجاجة الطرح

جدليّة المسلم والمسيحي والأفكار المسبقة، التي يحاجج بها أحدهما الآخر، وبعضها عفا عليها الزّمن، طرحت في المسرحيّة بفجاجة من دون أي مواربة، تماماً كما يحصل خلف الأبواب المغلقة بعيداً عن التلميع ومحاولة تجميل أمور لا تحتمل التجميل. هذا الطّرح الصافع هل يغامر بتحويل المشاهدين إلى كائناتٍ تدافع عن أخطائها؟

يقول خباز “نطرح الأمور بهذه الفجاجة لنلقي الضّوء على سخافتها، على تفاهة هذا الخلاف، ولنذهب إلى القواسم المشتركة الأساسية. وعلى فكرة، هي ليست جدلية المسلم والمسيحي، بل هي جدلية شخصين لا يتشابهان بشيء، في زمانٍ ومكانٍ معيّنين، لكن الظروف أرغمتهما على أن يكونا صديقين، اكتشفا قواسم مشتركة بينهما، أحلامهما المشتركة، طموحاتهما، عواطفهما، علاقتهما مع طفولتيهما، مع عائلتيهما هي نفسها، يشبهان بعضهما من دون أن يدريا”.

ثنائية جورج خباز وعادل كرم

في “خيال صحرا”، يخرج بعض المشاهدين وهم يضحكون. الكوميديا السوداء تمسّ بالعمق. الحوارات ذكيّة تلعب على وتر الأحاسيس بطرافة تخفّف وطأة القصّة، التي تدور على متراسين يفصل بينهما خطّ تماس، والبعض يخرج وهو يحمل وجعاً، وتساؤلات محبطة: “متى لهذا الشعب أن يعي أن تكرار الأخطاء نفسها لا يقود إلا إلى النتائج نفسها؟”. بين المشاهدين، أيّهما يفضّل خباز؟ يقول: “أكثر تعليق مسّني هو تعليق المشاهد الذي قال لي إنّ المسرحيّة دفعته إلى إعادة التفكير، ومن قال إنّه ضحك وبكى في نفس الوقت؛ هذه الخلطة من المشاعر تشبهنا كلبنانيين وتشبه عبثيّة حياتنا. لذا، عندما يقال إنّ المسرحية هزّت المشاهد ودفعته إلى التفكير وطرحت الجدلية أكون قد نلت حقّي”.

ثنائية عادل كرم وجورج خباز على المسرح كانت مدهشة. جورج أب المسرح وأمّه، وعادل القادم من السينما وعالم الشونسونييه، عالمان مختلفان تقاطعا في المسرحية بتناغم ملحوظ. عن هذه الثنائية يقول خباز: “عادل كرم ممثل ممتاز، قدّم أعمالاً رائعة في السينما والتلفزيون، لكنّه لم يقدّم هذا النّوع من المسرحيات. وأنا كنت على يقين بأنّه سينجح في هذا الدّور تحديداً، لذا اخترت أن يكون هو شريكي على الخشبة، وكان التناغم بيننا ملحوظاً، وهو كان ملتزماً جداً بأن ينفّذ رؤيتي الإخراجيّة ليقترب أكثر من هذا العالم، ولينصهر فيه كما رأيتم ويكون مقنعاً كما لمس الجمهور”.

استغرق العمل على المسرحية شهرين من التمارين اليومية المكثّفة. تحدّث عادل وجورج كثيراً عن الشخصية لناحية أبعادها النفسية والعاطفية والبيئية والاجتماعية والعائلية، وأدوات هذا المسرح الجسدية والصوتية والعصبية. يقول جورج إنّ عادل أخذ كلّ هذه الأمور بالكثير من الإتقان ونفّذها على المسرح.

نهايتان لمسرحية واحدة

وضع خبّاز للمسرحية نهايتين: واحدة حقيقيّة، وأخرى متخيّلة، شكّلت صفعة على وجوه المشاهدين. من تلك الصفعات التي يحتاجها أحدنا ليعي أنّ ما يراه فعلاً ليس هو حقيقة ما يجري، وأنّ ثمّة أحداثاً تتقاطع في نهايتها لكنّ العبرة واحدة. عن هذه النهاية يقول خباز مصوّباً: “هما ليسا نهايتين، بل هما احتمالان لا ثالث لهما لمن يحمل سلاحه ضدّ أخيه في الوطن، إمّا أن ينتهي بالموت الحقيقي أو يموت وهو على قيد الحياة”.

نتحدّث عن موت الشخصية موتاً افتراضياً أو حقيقياً. النهاية هي نفسها مأسوية. ماذا يشعر الكاتب حين يقتل إحدى شخصياته أو يكتب لها مصيراً أسود؟ يقول خباز “أنا لا أقتل الشخصية. الشخصية التي قُتلت تحاكيني ككاتب لأكتب عنها، وهذا الأمر يؤلمني كما يؤلم المشاهد، ولولا هذا الألم لما كتبت “.

مغامرة غير محسوبة العواقب

الأغاني في المسرحية كانت واحدة من أهمّ نقاط قوّة العمل، وأضفت جواً كوميدياً، بالرغم من أنف خطوط التماس والدمار المحيط بها. يقول خباز إنّه يستوحي كلماتها من قلب الأحداث والشخصيات، كما يلقي الضّوء على رقصة برودواي على أنقاض الحرب، التي أدّاها باتّقان مع عادل كرم على المسرح. يقول “هذه حقيقتنا. لدينا أحلام لكن واقعنا مختلف”.

انطلقت المسرحية مع بداية آب، أكثر شهور الحرب سخونة. كان البلد يعيش على وقع حربٍ مفتوحة، ومصيرٍ مجهول، والكثير من القلق على المصير والمستقبل القريب. وبالرغم من كلّ الظروف التي تضافرت لقتل المسرح، حشدت المسرحية الآلاف، في مشهد مهيب لا يشبه حقيقة ما يجري في الخارج. بدا أنّ إنتاج مسرحية في هذه الظّروف مغامرة غير محسوبة العواقب. عن الحضور الكثيف في هذه الظروف يقول “أكملنا المسرحية بسبب حجم الحجوزات الذي يعكس شغف الناس بالمسرح. كان لدينا حضور من الجنوب، من صور وبنت جبيل وصيدا ومرجعيون والنبطية، تحت التهديد بالقصف. هذا دليل أنّ إرادة الحياة عند اللبناني فوق كلّ اعتبار، وهذا ما يعطينا قوّة لنستمر”.

أربع سنوات انقطع فيها خباز عن المسرح. يقول إنّ جمهوره لم يتوقّف يوماً عن مطالبته بالعودة. كان على يقين بأنّ الجمهور سيكون وفياً. يقول “أثّر فيّ هذا الوفاء كثيراً، وكيف أنّ الناس حضروا إلى المسرح من مسافات بعيدة. من دون شكّ، كنّا نشعر بالقلق والخوف، لكنّنا استمررنا. وهنا أودّ أن أوجّه تحيّة لأهل الجنوب من قلبي، أحييهم لصمودهم، ولإرادتهم في الحياة”.

غائب عن موسم رمضان 2025

غياب عن المسرح قابله حضور في السينما والتلفزيون من خلال فيلم “أصحاب ولا أعز”، ومسلسلي “براندو الشرق” و”النار بالنار”. توقّعنا أن نشاهد خبّاز في دراما رمضان هذا العام. يقول “صوّرت فيلماً من بطولتي بعنوان “يونان” في ألمانيا باللغة الألمانية. تمّ تصويره في فصل الخريف بالتزامن مع تصوير دراما رمضان، فلم يتسنّ لي الالتزام بأيّ عمل. والسنة هذه أيضاً سأصوّر فيلماً في كندا بين أيلول وتشرين أول، ولن أحضر في الموسم الرمضاني المقبل”.

يقول خباز إنّه تلقّى عروضاً درامية، لم يقرأها حتى، كي لا يشعر بالحسرة لأنّه كان يدرك مسبقاً أنّه لن يتمكّن من الحضور في الموسم الرمضاني.

بالعودة إلى المسرح… تعود “خيال صحرا” في موسم الأعياد في شهر كانون الأول. يرجو خبّاز أن تكون الأوضاع أفضل. وبالأوضاع كافة، يدرك أنّ الجمهور لا يخذل مسرحه، فثمّة علاقة بينهما لا يفهمها سوى من يشاهد مسرح خباز… نقطة مضيئة وسط كلّ هذا الظلام.

النهار

Leave A Reply