“النمرة الحمراء” ومالكوها ضحية الانهيار اللبناني

كتب الانهيار المالي النهاية لأسطورة “النمرة الحمراء” التي امتدت لأكثر من ستة عقود في لبنان، لينتقل معها سائق الأجرة من مرحلة الاكتفاء إلى العوز، ومن الطبقة المتوسطة إلى “الأكثر فقراً”. ويمكن التماس هذا الأمر في سلوك هذه الشريحة، ففي السابق، فاخر سائقو التاكسي بامتلاكهم لوحة القيادة العمومية التي تمنحهم مزايا مهمة، أما اليوم، فيسعى كثيرون للتخلي عنها بسبب الأعباء التي تفرضها عليهم تجاه المؤسسات الضامنة.

الماضي المجيد

يعيش سائقو التاكسي على تاريخ من الذكريات والأمجاد، التي يرتبط أغلبها بلبنان النمو والازدهار، فقد اقترن اتساع قطاع سيارات الأجرة في البلاد مع مرحلة الانفتاح الكبير على العالم، والنشاط في القطاعات السياحية والخدماتية.

منذ 50 عاماً اختار أبو وسيم الاستثمار في “النمرة الحمراء” (لون لوحة سيارة الأجرة في لبنان)، ويروي الرجل الثمانيني أنه “فضل شراء اللوحة العمومية بمبلغ 65 ألف ليرة لبنانية في بداية سبعينيات القرن الماضي، وهو مبلغ كان بمثابة ثروة لأن الدولار كان يساوي ليرة ونصف الليرة اللبنانية”. ويوضح، “ادخرت ذاك المبلغ لسنوات أثناء عملي في الخليج العربي، وبعد أن عدت إلى لبنان، كان لدي خياران، إما شراء عقار أرض شاسعة، أو شراء سيارة شيفروليه ولوحة الأجرة. اخترت النمرة الحمراء”. ويتابع مستذكراً كيف كان يصول ويجول في أنحاء لبنان، وصولاً إلى سوريا وتركيا ومختلف الدول العربية.

كانت أجرة الراكب تساوي “نصف ليرة” داخل مدينة طرابلس، وليرة ونصف الليرة إلى بيروت، وهذا البدل كان يكفي لتأمين طعام الغداء والعشاء للسائق، بحسب أبو وسيم، لافتاً إلى أن “ثمن شطيرة الفلافل كان ثلاثة فرنكات أي 15 قرشاً، أما وجبة الحمص والخبز فكانت بربع ليرة”. ويضيف، “حققت لنا النمرة استقراراً عائلياً، ودخلاً ثابتاً لتعليم الأبناء والإنفاق على الأهل، كما كان الضمان الاجتماعي الذي تؤمنه يغطي 80 في المئة من الاستشفاء والطبابة، ويوفر تعويضاً عائلياً شهرياً، وتغطية للدواء”.

طور الانهيار

بعد حقبة العز، دبت الفوضى في البلاد، وهو ما انعكس مباشرة على قطاع الأجرة والسيارات العمومية. ودخلت إلى سوق المنافسة “اللوحات المزورة”، والسيارات الخصوصية، قبل أن يتسع سوق الفانات والباصات، والمكاتب الخاصة، والتطبيقات الذكية، وصولاً إلى عصر الـ”توكتوك” الذي انتشر في مختلف المدن والأحياء. ومن اللافت، انتشار التاكسي بالنمر الخصوصية حتى في المواقف العمومية المرخصة، حيث باتت اللوحات الحمراء العمومية نادرة، إضافة إلى دخول مجموعات جديدة إلى هذا المجال من خلال الأجانب غير المسجلين، ناهيك ببعض موظفي الأسلاك المدنية والعسكرية الباحثين عن دخل إضافي في ظل انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي.

تختصر قصة الحاج عامر الواقع الحالي لسائق التاكسي في لبنان، يقول مقسماً بالجلالة، “لا يكفيني الدخل اليومي من الأجرة لشراء الخبز والدخان”، معللاً “البنزين أصبح غالي الثمن، وهناك منافسة شديدة من السيارات الخصوصية، كما استحوذ التوكتوك على جزء كبير من سوق النقل داخل المدن، إضافة إلى خطوط الباصات بين المناطق”. لذلك، يفكر الحاج عامر جلياً في بيع اللوحة العمومية، و”لكن في كل مرة، أشاور ذاتي، وأقرر التأجيل بعض الشيء، عسى أن يرتفع ثمنها بعد أن خسرت 80 في المئة من قيمتها”.

في المقابل، يعبر سائق آخر عن السبب الذي يدفعه للبقاء ومواصلة “العمل على الخط”، ذلك أنه “لم يعد الهدف تحقيق دخل وفير وفائض للادخار من وراء القيادة، وإنما الخروج من المنزل”. ويضيف، “نجلس لساعات طويلة في الموقف، ننتظر الركاب، وفي الأثناء نتناقش في ما يدور في البلاد، ونشكو المشكلات لبعضنا البعض”، مؤكداً أن “الضمان أصبح مزحة، وبات السائق ملزماً دفع الاشتراكات بالملايين عوضاً عن تحصيل جزء من النفقات الاستشفائية والعائلية”.

النقابات مطوقة

كانت للانهيار المالي والاقتصادي نتائج غير محمودة على قطاع السيارات العمومية في لبنان. ويؤكد نقيب السائقين في الشمال شادي السيد، أنه “لا يمكن مقارنة وضع سائق الأجرة اليوم عما كان عليه قبل 2019، عندما كان سعر الصرف الرسمي 1500 ليرة لبنانية للدولار الواحد”، معقباً “كان سعر اللوحة العمومية مساوياً لقيمة شقة سكنية أو متجر، وكانت تقدر بـ50 ألف دولار أميركي، أما الآن فقد تراجع ثمنها إلى ما بين 7200 و7600 دولار أميركي”. ويعود السبب في ذلك إلى “عدم حماية الدولة لقطاع النقل العمومي”، مطالباً القوى الأمنية بـ”ضبط السيارات المزورة والخصوصية، والنمر المكررة على أكثر من سيارة، ومنع الأجانب من قيادة سيارات الأجرة والباصات، وضبط الـ”توكتوك” غير المنظم، عوضاً عن صب جهودهم على تسطير المخالفات ومحاضر رادار السرعة الذي بات يساوي مليوني ليرة لبنانية”، كما يطالب السيد وزارة الأشغال العامة والنقل بتحديد التسعيرة الموحدة من أجل تنظيم السوق ووقف الفوضى والعشوائية في التسعير. ويشدد على أن “السيارات العمومية المرخصة تشكل عامل أمان وضمانة للراكب، لأن السائق معروف الهوية، والسيارة مسجلة، ويلزم السائق بوضع لوحة معدنية عليها كامل هويته”.

الشركات تشتري اللوحات العمومية

ويكشف شادي السيد أن “الشركات المتخصصة في مجال النقل تشتري اللوحات العمومية الحمراء”، و”انعكس هذا الأمر داخل المدن والأطراف”، و”شجع عدداً كبيراً من السائقين على التخلي عن لوحاتهم، ويعود السبب الأساسي إلى انعدام تقديمات الضمان الاجتماعي الذي لم يعد يغطي إلا الجزء القليل من الاستشفاء والطبابة، وما لا يذكر في ظل الدولرة الشاملة، واضطرار السائق إلى دفع الرسوم والاشتراكات الشهرية”، شاكياً “موت المضمونين على أبواب المستشفيات والامتناع عن الاستشفاء بسبب عدم امتلاك الدولارات الفريش (النقدية)”.

ويتطرق السيد إلى معاناة السائقين عند إقدامهم على بيع لوحاتهم في ظل إغلاق “النافعة” أي مصلحة تسجيل السيارات، حيث “يلزم السائق بدفع رسم تأخير 45 ألف ليرة لبنانية لقاء كل يوم تأخير في التسجيل بوصفه سائق مجهول، على الرغم من إقفال تلك الدوائر بقرار من الدولة”، إضافة إلى “حصر صب النمر (اللوحات) بمصلحة تسجيل السيارات في بيروت، وهو ما يرهق كاهل السائقين منذ نحو عام إذ أصبحوا ملزمين بالتوجه إلى بيروت للقيام بتلك المعاملة الروتينية”.

ويأسف نقيب السائقين في الشمال لأن “من أنفق دم قلبه – مدخراته أو حتى تعويض نهاية الخدمة لشراء اللوحة العمومية والسيارة، أصبح يعيش حياة الفاقة والعوز”، و”لم يعد السائق قادراً على صيانة السيارة أو تبديل الإطارات أو الزيت لأن كل الأسعار بالدولار الفريش”، كما أن “الأسطول بات قديم العهد لعدم القدرة على شراء سيارات جديدة، وهو أمر بات مستحيلاً في ظل رفع الرسوم والضرائب بموجب موازنة 2024”.

بشير مصطفى – اندبندنت

Leave A Reply