مساواة الإداريين والعسكريين والمتقاعدين بـ3 رواتب وإلغاء بدل الإنتاجية

نحو 340 ألفاً من اللبنانيين يتقاضون مرتباتهم من الدولة اللبنانية بانتظام شهري لم تقطعه الحروب والأزمات السياسية والهزات الاقتصادية، بينهم 210 آلاف في الجيش والقوى الأمنية والإدارة العامة، ونحو 120 ألف متقاعد من جميع القطاعات.

أدارت الدولة منذ زمن بعيد ظهرها للكثير من المناشدات والنصح التي طالبتها بتصغير حجم القطاع العام، وتقليص العبء الشهري الكبير المتنامي بفعل الترقي والتقاعد على نفقات المالية العامة، بيد أن التوظيف السياسي واستباحة مؤسسات الدولة مع المصالح الفئوية وترسخ ثقافة المحسوبيات، جعلت القطاع العام ملجأ لكل عاطل عن العمل “مدعوم”، وباباً من أبواب استرضاء الجماعات والقوى السياسية، فارتفع العدد لتصبح نسبة العاملين في القطاع العام ومعهم المتقاعدون 8.5% من مجموع الشعب اللبناني، وهو رقم مرتفع نسبة الى عدد السكان البالغ 4 ملايين، وغير صحي في زمن التطوّر المطّرد في تكنولوجيا الإدارة، ودخول البشرية في زمن الذكاء الاصطناعي.

في المقابل، وبعد دخول الإدارة العامة في الشلل شبه الكلي بسبب الإضرابات المتواصلة للمطالبة بتصحيح هزالة الأجور وكلفة الحضور الى العمل، وفي ظل تنامي مطالب المتقاعدين العسكريين والمدنيين والحراكات الشعبية التي واكبتها، كان لا بد للحكومة من التحرك باتجاه أمرين، الأول زيادة بعض الرسوم والضرائب لتعزيز موارد الخزينة وهو ما نجحت فيه محققة فائضاً ملموساً، والثاني الشروع في مفاوضة نقابة موظفي القطاع العام وممثلي المتقاعدين للاتفاق على أرقام الزيادات المقترحة، بما يراعي إمكانيات الدولة وإيراداتها المتوقعة من جهة، وحاجة الموظفين والمتقاعدين للمزيد من الدعم من جهة أخرى في ظل الأزمة المستفحلة التي تمر بالبلاد.

وعلمت “النهار” أنه تم الاتفاق مبدئياً على إعطاء 3 رواتب إضافية لموظفي القطاع العام من عسكريين وإداريين ومتقاعدين باستثناء موظفي التربية وأساتذة الجامعة اللبنانية والقضاة، وإلغاء فكرة بدل الإنتاجية لموظفي الإدارة العامة. في المقابل يدرس جدّياً استبدال بدل النقل اليومي لموظفي الإدارات العامة “حصراً” بصفائح بنزين (حد أدنى 14 صفيحة وحد أقصى 20 صفيحة شهرياً) شرط الحضور 18 يوماً شهرياً. كذلك تجري دراسة زيادة بدل النقل للعسكريين في الخدمة الفعلية من 5 ملايين حاليا شهرياً الى 7 ملايين شهرياً (نحو 5 صفائح بنزين).

تجدر الملاحظة أن مصرف لبنان لم يغب ولن يغيب عن أجواء المفاوضات والمشاريع المقترحة، إذ يحرص الجميع على الاستزادة برأيه وموقفه، بسبب استمراره في سياسة تسديد جميع الرواتب والأجور بالدولار الفريش المتوقع وصولها إلى ما يقارب 1.8 مليار دولار سنوياً، بمعدّل وسطي 400 إلى 450 دولاراً للموظف شهرياً، يحتاج مصرف لبنان إلى شراء قسم كبير منها من السوق المحلي، والباقي يتم تأمينه من إيرادات الدولة بالدولار.

الى ذلك، وفي دراسة أعدها مستشار رئيس الحكومة للشؤون الاقتصادية سمير الضاهر عن إصلاح القطاع العام، تبيّن أن تكلفة مرتبات القطاع العام مرتفعة جداً نسبة للمعايير المألوفة دولياً. ففي لبنان على مر السنين، شكل مجموع رواتب وتعويضات القطاع العام من موظفي الخدمة الفعلية والمتقاعدين – يقارب مجموع عددهم 340 ألفاً – نحو 40% من إجمالي نفقات الموازنة، بما شكل عبئاً فادحاً على مالية الدولة والاقتصاد ككل.

ويناهز عدد الموظفين في الخدمة الفعلية لمجموع الأسلاك العسكرية والأمنية، والإدارة المدنية على المستويَين المركزي والبلدي، والمؤسسات العامة، والتربية، والسلك القضائي، 210 آلاف موظف وهو رقم مرتفع للغاية في بلد يبلغ عدد مواطنيه المقيمين 4 ملايين.

أما المتقاعدون فيبلغ عددهم نحو 120 ألف متقاعد، 70% منهم أي 84 ألف، من متقاعدي الأسلاك غير المدنية. ويتمتع متقاعدو القطاع العام بنظام معاشات مغرٍ قلّ مثيله في سائر البلدان. ويعتمد نظام التقاعد على مبدأ “الدفع الجاري” حيث لا تستثمر في الأسواق المالية مساهمات الموظفين نحو معاشهم التقاعدي خلال سنوات الخدمة في “صندوق تقاعد” مستقل عن الخزينة، بل تندرج مساهماتهم ضمن الإيرادات الحكومية. من جراء ذلك تبقى المعاشات التقاعدية جزءاً من نفقات الموازنة حيث استنزفت عبر السنين قرابة 40% من إجمالي رواتب وتعويضات القطاع العام. لذا، نظراً لوقعها على المالية العامة، يجب، بعد تعافي الاقتصاد وتصحيح رواتب الموظفين واستقرار سعر الصرف، إدخال تعديلات منهجية على نظام تقاعد القطاع العام لضمان استدامته على المدى الطويل مع العمل على تقليص الفجوة بين أنظمة التقاعد في القطاعين العام والخاص. ووفق الدراسة فإن موضوع نظام وكلفة التقاعد من صلب سياسة الرعاية الاجتماعية الذي، على كلفته، يبقى خارج نطاق إصلاح الإدارة العامة.

ويرى الضاهر أن الإصلاح الإداري، وتحسين إدارة النفقات العامة موضوعان مختلفان. فإنجاز خطة إصلاح القطاع العام يتطلب تجزئة مكوّناته لمقاربتها كلاً على حدة عبر الفصل بين الأسلاك، والتمييز بين موضوعين: “الإصلاح الإداري” و”تحسين إدارة النفقات العامة” لمعالجتهما بفعالية. فالإصلاح الإداري يتطلب التركيز على الإدارة العامة (وعدد موظفيها 25 ألفاً)، والمؤسسات العامة (وعدد موظفيها 20 ألفاً). أما الأسلاك الأخرى، ذات الوقع الشديد على الموازنة العامة، فهي خارج نطاق إصلاح الإدارة العامة، وتجب معالجتها في سياق أوسع، بدءاً بقطاع التعليم العام عبر إصلاح السياسة التربوية نظراً لتدنّي جودة التعليم رغم فائق عدد المدرّسين نسبة لعدد التلامذة. كذلك واقع الأجهزة العسكرية التي يجب معالجتها في السياق الوطني الأوسع لاستراتيجية الدفاع والحفاظ على الأمن.

مؤسسات ذات نظام حوكمة غير مؤاتٍ

برأي الضاهر فإن إصلاح الإدارة والمؤسسات العامة يُعد من حيث تحسين الحوكمة والإطار التنظيمي أمراً بالغ الأهمية لتنفيذ سياسات عامة تحفز النمو وتحسن تخصيص واستعمال الموارد، وتحدّ من انتشار الفقر. لقد فشل القطاع العام في الاضطلاع بدوره المحوري والحصري في سن الأطر القانونية والتنظيمية الداعمة للنموّ في ظل سلطة قضائية حازمة ومستقلة، ومؤسسات رقابية كاملة الصلاحيات. فمن المهم في لبنان، حيث القطاع الخاص – الذي يصول ويجول بفائض من الحرية أحياناً – هو المحرك الرئيسي للاقتصاد وخلق العمالة والقيم المضافة، أن يكون لمؤسسات الدولة دور قيادي في تأمين نظام قائم على التنافسية، محرر من هيمنة الاحتكارات وآفة الفساد، تطبق فيه القوانين بشفافية لضمان نزاهة الأسواق وتكافؤ الفرص للمشاركين فيها وحماية المستهلك والمستثمر على حدّ سواء، بيد أن الممارسة في لبنان على مدى العقدين الماضيين لم تكن على هذا المستوى، وقد آنَ يوم الحساب.

ويشير الى أن إصلاح القطاع العام هو من ركائز خطة التعافي الحكومية. فتحديث وتطوير وتعزيز جهاز الإدارة العامة بمؤسساتها الضعيفة أو المهمّشة وتحسين أدائها وتنسيق عملها هو عامل أساسي للإصلاح المؤسسي الناجح، بل لخطة الإصلاح برمتها، وله تأثير حاسم على مسار التعافي الاقتصادي.

ولا ينسى الضاهر الإشارة الى أن تاريخ هيكلية الإدارة العامة في لبنان يعود إلى ستينيات القرن الماضي. وتالياً حان الأوان لإعادة تصميم هذه الهيكلية وفقاً لاستراتيجية مدروسة، وذلك على مسارين متوازيين: أولهما يخصّ الوزارات والإدارات الأساسية في القطاع الحكومي، وثانيهما يخص جميع الكيانات العامة الأخرى ومجموعها نحو 80 من شركات ومؤسسات وهيئات ومنشآت ومجالس وسلطات مملوكة للدولة، إضافة إلى 28 مستشفى حكومياً.

ويتطلب تنفيذ الاستراتيجية مشاورات واسعة النطاق وبناء توافق في الآراء على المستويين الوطني والسياسي. ومن الممكن “للمجلس الاقتصادي والاجتماعي” أن يكون المنصة المناسبة للحوار بين ذوي الشأن المتعددين حول إصلاح القطاع العام، وهو من قضايا السياسة العامة الهامة.

هدف الإصلاح النهائي هو تعزيز وتبسيط الهيكلية، والحجم إن لزِم الأمر، لجميع الهيئات العامة بما يتماشى مع ولايتها المحدثة من خلال رفع مستوى المهارات، وإعادة توزيع الفوائض لملء الشواغر، والاستنزاف الطبيعي. في البيئة الاقتصادية المتعثرة حالياً في لبنان، تُعدّ أجور القطاع العام المقوّمة بالعملة المحلية التي انخفضت قيمتها بنسبة حادّة لتغدو أقل جاذبية من تعويضات القطاع الخاص – ما لم تكن الحال قبل حلول الأزمة – تمثل فرصة فريدة لإعادة هيكلة القطاع العام دون ضرورة تسريح عدد كبير من الموظفين. لذلك، ستوضع هيكلية مبسطة مع مخطط تنظيمي منقح لكل وزارة ومؤسسة عامة، مع تحديد الأوصاف الوظيفية التفصيلية لجميع المناصب على امتداد التسلسل الهرمي بأكمله. ويمكن بعد ذلك إعادة النظر في سلسلة الدرجات والأجور وتعديلها لتتناسب مع مؤهلات الموظف المعززة وزيادة الإنتاجية.

ويلفت الضاهر كذلك، الى أنه ستجري متابعة الإصلاح الإداري من خلال برامج الحكومة الإلكترونية القابلة للتنفيذ والتي تسمح للمواطنين بإجراء المعاملات الرسمية بتقديم الطلبات عبر الإنترنت، وإرفاق الوثائق المطلوبة، وجمع الإجراءات الشكلية المكتملة عند الإخطار (أمثلة على ذلك، النافذة الواحدة للسجل التجاري، ونظام السجل الوطني على الإنترنت).. ومن شأن ذلك أن ينشط القطاع العام ويلبّي تطلعات المواطنين في تطوير الاستخدام الفعال للحكومة الإلكترونية، وبالتالي تحديث إدارة الحكومة من خلال الأتمتة؛ وتعزيز الخدمات الإلكترونية عبر الوزارات؛ والمساعدة في بناء الأساس لمجتمع قائم على المعرفة وخالٍ من الفساد. ويدعو الأمر إلى تعزيز التنسيق بين مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية وجميع الوزارات لتعزيز بناء الحكومة الإلكترونية مما يتيح إمكانية التشغيل البيني بين كل مؤسسات الدولة.

أين الحكومة من مسيرة إصلاح القطاع العام؟ يوضح الضاهر أن خطة التعافي الحكومية تتناول على المدى المتوسط، خريطة طريق لإصلاح القطاع العام لكلّ من الإدارة العامة والشركات المملوكة للدولة. وقد تمت صياغة وإدراج تدابير الإصلاح في اتفاقية الحكومة مع صندوق النقد الدولي، وهي مرتبطة بتسعة مما يسمّى “المعايير الهيكلية” – من إجمالي 28 معياراً تشكل أجندة الإصلاح الشاملة، مشيراً الى أن الحكومة ملتزمة إجراء إصلاح شامل لقطاع الشركات المملوكة للدولة لتحسين جدواها التشغيلية والمالية. تتمثل الأولوية في تحديث الإطار القانوني، وتحسين الكفاية، وخفض تكاليف المالية العامة بشكل ملحوظ من خلال تعزيز المساءلة والشفافية والرقابة على هذه الكيانات. ويقوم البرنامج على الآتي:

– إنشاء الحسابات المالية وقوائم الجرد لجميع الشركات المملوكة للدولة وتحديثها سنوياً، سواء كانت المؤسسات تحت إشراف وزارة المالية أو وصاية الوزارات القطاعية أو البنك المركزي. لذا ستقوم شركات عالمية مرموقة بعمليات التدقيق التشغيلية والمالية للمؤسسات المملوكة للدولة بدءاً بشركة كهرباء لبنان، ومرفأ بيروت، وكازينو لبنان، وطيران الشرق الأوسط، ومشغلي الاتصالات، وإدارة التبغ. كما ستُنشر جميع عمليات التدقيق تعزيزاً للشفافية.

– تحديث وتحسين معطيات ملكية الشركات المملوكة للدولة، وتحديد الإطار القانوني غير الواضح أحياناً، بمزيد من الدقّة، للملكية والرقابة والوظائف والسياسات التشغيلية. وفي خطوة أولى، ستعمد الحكومة إلى وضع شرعة ملكية لشركات المملوكة للدولة مع المعايير والأسس التي تُبرِّر أو تتطلّب ملكية الدولة، مع بنية جديدة لحوكمة الشركات، ومراقبة الأداء، والمبادئ التوجيهية لإعداد التقارير والإفصاح. واستناداً إلى هذه الاستراتيجية، سيُسنّ قانون جديد للمؤسسات المملوكة للدولة يتماشى مع المعايير الدولية، وتُفرز الشركات إلى تلك التي ستحتفظ الدولة بإدارتها، أو خصخصتها، أو دمجها، أو تصفيتها.

ويختم الضاهر بالقول إنه على مر السنين، كان لبنان يتلقى مساعدات خارجية واسعة النطاق تهدف إلى إصلاح الإدارة والمؤسسات العامة. وعلى وجه الخصوص، دُمجت فرق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية منذ إنشائه، إلى جانب البرامج الأخرى التي يدعمها البنك الدولي ومنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي إضافة إلى عديد من المصادر الثنائية للمساعدة الفنية. وفي هذه العملية بُني قدر كبير من المعرفة والتحليلات. لذا، إن إنشاء قائمة جرد لهذا العمل واستخلاص الدروس وتقييم نتائجه من شأنه أن يساعد الحكومة كثيراً في حملتها لإصلاح القطاع العام.

 سلوى بعلبكي – النهار

Follow Us: 

Leave A Reply