صوت الصّورة وصل: هكذا خسرت “إسرائيل” أقوى حروبها

حسن الدر –

لم تزل الحرب مفتوحة، وفي الإطار صور كثيرة يجب تسليط الضّوء عليها، هذه مسؤوليّتنا جميعاً، فقد ألقت غزّة الحجّة علينا، ولا عذر لمتخاذل.

قال الكاتب الأميركي أوليفر وندل هولمز عام 1859 عندما بدأ عصر التّصوير الفوتوغرافيّ: “إنّ عملية التّصوير هي إخضاع للمادّة الصمّاء وانتزاع جزء من ماهيتها في مشهد قابل للمعاينة خارج حدود الزّمن الضّائع…”

بالفعل، ثمّة زمنٌ فلسطينيّ ضائع بين خطوط الصّورة وألوانها وأبعادها عمره 75 عاماً، لأنّ ثمّة عدوّاً قويّاً استطاع مصادرة الحقيقة تحت عناوين الأحقّيّة بالأرض والمظلوميّة من المحيط، فعلا صوت صورة “إسرائيل” فوق صوت صورة فلسطين!

ليس لأنّ صورة الحقّ الفلسطيني ومظلوميّة القضيّة باهتة، بل لأنّ المؤثّر في صناعة المشهد أعور، لا يرى سوى ما تريده “إسرائيل”!

بقيت صورة فلسطين ملوّنة بدماء الشّهداء ورماد الرّكام طوال عقود بسبب الظّلم والقهر والعنجهيّة الصّهيونيّة المدعومة عالميّاً بكلّ وسائل التّأثير الظّاهرة والخفيّة التي عملت على تلوين صورة المغتصبين الصّهاينة بألوان المظلوميّة المزيّفة، والأحقّيّة التّاريخيّة المزوّرة.

ورغم تعذّر توثيق صور قتلى صهاينة “أبرياء”، لجأت غرف الإعلام السّوداء إلى تصوير الضّحيّة بصورة المعتدي، فأهملت، على سبيل المثال، صور الأطفال القتلى والأمّهات الثّكلى في غزّة، خوفاً على “خدش مشاعر المتلقّين”، ونشرت صورة امرأة تحمل الحجارة لترمي بها دبّابة “ميركافا” في الضّفّة الغربيّة، طبعاً لم تظهر “الميركافا” في الصّورة، بل ظهرت صورة أخرى لشباب يتجمهرون قرب الجدار العازل في غلاف غزّة لتقول للعالم: “اليهود في خطر دائم وداهم!”

يوم السّابع من أكتوبر انقلبت الصّورة، فقد صنعت المقاومة مشهداً جديداً لم يألفه العالم.

كان مشهداً أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، عندما خرجت غزّة، على حين عِزّة، من تحت الأرض وفوق الأسوار ومن تحت الماء واقتحمت غلافها، لتقتل الجنود وتأسر ما ملكت يمينها، ليس للتّرهيب والتّعذيب، كما يفعل عدوّها، بل لأجل تحرير آلافٍ يقبعون في السّجون الإسرائيليّة وفق أحكام تعسّفيّة يصل بعضها إلى عقود مديدة!

في الأسر أطفال ونساء ورجال منسيّون، لا يسأل عنهم أحد، لا يسمع صوتهم أحد، ولا ينقل معاناتهم أحد، فكان لا بدّ من قلب الصّورة، وهكذا كان.

حاولت “إسرائيل” كعادتها استغلال المشهد، فهذه فرصتها للقضاء على غزّة والانتهاء من كابوس أرّق ويؤرّق قادتها. هذا وقت تحقيق حلم الصّهاينة الذي أفصح عنه “إسحاق رابين” عام 1992 يوم قال: “أتمنّى أن أستيقظ يوماً من النّوم وأرى غزّة وقد ابتلعها البحر”!

أخرج بنيامين نتنياهو وأعضاء حكومته المجرمة مخطّطات قديمة تقضي برمي أهل غزّة في صحراء سيناء، والانتهاء مرّة وإلى الأبد من أهل الأرض.

حشدت “إسرائيل” كلّ إمكاناتها العسكريّة والأمنيّة والاستخباريّة، وكل الدّعم الدّاخليّ من “مجتمع” ارتفع لديه أدرينالين الانتقام بعدما شعر بالنّار تقترب من “البيت”، مستفيداً من دعم أميركيّ وغربيّ مطلق، وشبه صمت عربيّ وإسلاميّ مريب، كأنّ الكلّ يريد الخلاص من غزّة وفلسطين وقضيّتها، لتبدأ حرباً هي الأخطر منذ التّأسيس، حسب بعض الصّهاينة، وحرب “الاستقلال” الثّاني كما وصفها رئيس الوزراء المأزوم والمهزوم.

اصطدم مشروع “التّرانسفير” برفض مصريّ قاطع رغم المغريات الكبيرة التي قدّمت لها، فاستعاضت “إسرائيل” عن فكرة التّهجير بفكرة التّطهير!

أدار “جيش” العدو محرّكات دباباته وطائراته، وبدأ بالفعل بعمليّة إبادة جماعيّة غير مسبوقة في تاريخ البشريّة، على الأقل من حيث النّقل الحي، وتمادت آلة القتل في الفتك بالأطفال والنّساء والشّيوخ الأبرياء، ليرى العالم لأوّل مرّة صورة “إسرائيل” من غير “فلاتر” ومن دون “فوتوشوب”، فبدا وجهها على حقيقته قميماً قبيحاً ملطّخاً بدماء المدنيين!

على مدى العقود الماضية، لم تنجح صورة الحقيقة، رغم قسوتها، في إيصال صوتها إلى مراكز القرار؛ لأنّها صورة “ضعيفة” لا تسندها قوّة ضاغطة.

كان لا بدّ من تغيير الصّورة وصناعة مشهد جديد تتّحد فيه قوّة الحقيقة مع حقيقة القوّة.

كتب يحيى السّنوار ومحمد الضّيف ورفاقهما سيناريو لا يخطر ألمه على بال “إسرائيل”، ولا يخطر أمله على بال المؤيّدين والمناصرين لقضيّة فلسطين.

كان لا بدّ من حدث زلزال يهزّ أركان الكيان وداعميه ويعيد الحياة إلى القضيّة التي كانت في موت سريريّ بانتظار القرار النّهائي بشطبها من المعادلة خدمةً للمشروع الإبراهيمي، ولكي يكون طريق التّجارة الهنديّ في اتّجاه مرفأ حيفا معبّداً بالدّم الفلسطينيّ من دون عوائق وعواقب.

اختارت حماس توقيتاً غاية في الدّقّة والذّكاء وألقت كلّ أوراقها على طاولة التّحدّي، ولمزيد من الإثارة والتّشويق لم ينسَ المقاومون السّلاح الأمضى لتوثيق المعركة الكبرى.

بدأت الصّور تتسرّب من غلاف غزّة وبدأت عيون العالم تحملق مشدوهةً مدهوشة ممّا ترى، فُتح هواء القنوات المحلّيّة والعالميّة وضجّت صفحات وسائل التّواصل بالحدث العظيم.

احتفى أهل المقاومة بالبطولات الخرافيّة لمجاهدي غزّة، في المقابل، بدأ النّحيب والصّراخ خوفاً على الكيان المدلّل.

ادّعى العدوّ بأنّ عنصر المباغتة لعب لصالح المقاومة، فأعدّ العدّة وحشد كلّ قواه الدّاخليّة والخارجيّة للانتقام وردّ الاعتبار، مهّد لدخول غزّة بقصف برّيّ وجوّيّ غير مسبوق سوّى أحياءً كاملة بالأرض.

أيّام من الصّمت الثّقيل خيّم على العالم، لكنّ حجم الإجرام المهول كشف صورة كانت مخفيّة عن أعين الأجيال الصّاعدة، تلقّف الجيل” Z ” المشهد وتفاعل معه، فسقط قناع المظلوميّة اليهوديّة المتستّر خلف ادّعاء الحضارة والحرّيّة والدّيمقراطيّة، فخسر الكيان العنصريّ أهمّ معاركه: معركة الوعي العالمي.

دخل “الجيش” المدجّج بأحدث آلات القتل والتّجسّس ليقضي على مقاومة بدائيّة الأسلحة عقائديّة القضيّة فكانت النّتيجة “صفر أهداف”.

في المقابل، كان للصفر معنى آخر لدى أبطال المقاومة الذين تجاوزوا حدّ المعقول في بسالتهم.

وثّقت حماس بطولات مقاوميها بصورة ستضاف إلى “ألبوم” معجزة “طوفان الأقصى”: صورة قوّة أهل الأرض المعنويّة أمام قوّة الغزاة المادّيّة.

الصّورة الأبهى كانت أثناء الهدنة، الهدنة بحدّ ذاتها “نصر صاف للمقاومة” هكذا قال مسؤول أميركي لشبكة ABC الأميركيّة.

ذُهل العالم من مشاهد الودّ بين الأسرى والمقاتلين، علّق صهاينة على ادّعاءات حكوميّة بأنّ الأسرى مجبورون على إظهار التّعاطف: “العيون لا تكذب”، نعم عيون الأسرى ولغة جسدهم لا تكذب، لقد قالت الكثير عن الأخلاق الغزّاويّة وعن إنسانيّة شعب مظلوم يحاولون وسمه بالإرهاب!

خسرت “إسرائيل” مرّة ثالثة في حرب الصّورة، شاهد العالم مَن الإنسانيّ ومن الإرهابي، الإرهاب صناعة إسرائيليّة يمارس في السّجون على النّساء والأطفال، شهادات الأسرى المحرّرين الموثّقة بالنّدب على أجسادهم كافية ووافية ليعلم القاصي والدّاني الحقيقة.

الحقيقة الدّامغة تحاول “إسرائيل” طمسها باستهداف الصّحافيين، سبعون ارتقوا في غزّة قبل الهدنة، وثلاثة في لبنان، دفعوا ثمن تظهير صورة الحقيقة، وكانت شهادتهم دليلاً إضافيّاً على قبح “إسرائيل” وبشاعتها..

لم تزل الحرب مفتوحة، وفي الإطار صور كثيرة يجب تسليط الضّوء عليها، هذه مسؤوليّتنا جميعاً، فقد ألقت غزّة الحجّة علينا، ولا عذر لمتخاذل.

Leave A Reply