بيروت تحتفل بأيام مولانا الرومي برعاية وزير الثقافة

برعاية وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى وبدعوة من دار الأمير أقيمت عصر الخميس 14/9/2023في قاعة المكتبة الوطنية، وزارة الثقافة،ندوة فكرية مميزة حول رواية “أيام مولانا وقواعد العشق الأربعون” لمؤلفها الدكتور محمد حسين بزي.

افتتح الاحتفال بالنشيد الوطني اللبناني ثم كلمة وزير الثقافة التي ألقاها الإعلامي روني ألفا، تلتها قراءات نقدية لكل من الدكتور طراد حمادة والدكتورة دلال عبّاس والدكتورة منى رسلان، وأدار الندوة المحامي سليمان علوش وسط حشد كبير من الشعراء والأدباء والكتّاب وشخصيات سياسيةواجتماعية وإعلامية وثقافية.

وفي كلمته الترحيبية بالحضور قال علوش: “أن نجتمعَ اليوم في رحاب المكتبة الوطنيَّة وبرعاية وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى، فهذا يوازي فعلُ إيمانٍ بلبنان، وفعلُ صمودٍ ثقافيٍ نوعي يأبى أُفول الإرادة وسبات الإبداع، فكيف إذا كنّا في حضرة التصوف لمناقشة كتاب أو رواية من أمهات المؤلفات في التصوف تحت عنوان”أيام مولانا وقواعد العشق الأربعون “للدكتور محمد حسين بزي المتخصص في الفلسفة والتصوف، ونحن في حضرة العلماء والمفكرين والكتّاب، والإعلاميين والمُصنِّفين، لا يمكن إلّا أن نحتفي بحضور الفكر بيننا عاقدين العزم على أن تبقى وزارة الثقافة اللبنانية المكان الحاضن والمحتضن لكل إبداعات اللبنانيين على شتّى تصنيفاتهم لنعكس الروح اللبنانية الأصيلة”.

ثم ألقى الكاتب والإعلامي روني ألفا كلمة الوزير المرتضى، وممّا قاله: “الحبيبُ الدّكتور محمَّد جسين بزي،أنا بأمسِّ الشَّوقِ مثلُكَ لِأَحصلَ على بطاقةِ إعاشَةٍ وسطَ يباسِ الرُّبعِ الخالي من أرض البَشَر.. ينتابُني انتماءٌ لكَوكَبٍ اخترعَهُ أنطوان ده سانت إكزوبِري من غُبارِ نِعالِ الأنبياء. رفيقُ سفري الأميرُ الصغيرُ ولشدّةِ ضيقِ المساحةِ على الكوكبِ الأزرقِ قرَّرتُ منذُ سنين أن أَحجِزَ لي صخرةً قربَه على سطح القمر. ولدان نحنُ تتمرجَحُ أرجُلُهُما في الخَلاءِ الكونيِّ ويرفُسان النجومَ كُراتَ قدمٍ متلألِئةٍ بلا مَرمَى وكُوَيكِباتَ أسئلَةٍ طفوليَّةٍ تصرُخُ في السِّعَةِ الكُبرى: أهناكَ ربٌّ يسمَعُنا في هذا الفضاء؟ أهناك حبٌّ يَغمُرُنا فَوْقَ هذه السَّماء؟”.

وتابع ألفا: “كبرتُ يا محمَّداً وسمِعتُ بأمِّ الأُذُنَين الأميرَ الصغيرَ يحتجُّ على تحويلِهِ دمىً مِنَ كريستالٍ وجَفصين يُصمَدُ في صالونات القصور المنيفة. بُتِرَتْ رِجلاه النَّحيفَتانِ وأكلَتْ كلٌّ من سيري وألكسا العاملتان المنزليتان في بيتِ آل غوغِل ما تبقّى من نجومٍ في صحونِ الحضارةِ الرَّقمية. لم يبق في فضاءاتنا عزيزي الأستاذ محمَّد سوى مولانا وأربعينَ نجمةَ حُبّْ.

على سُلَّمٍ تِرمَذِيٍّ من شَجَرِ الوَحي أصعِدنا معَكَ إلى هَديلِ عَمامَة. اعتَمِر ضبابَ الصلاةِ وتكثَّفْ في غباوَةِ صَوابِنا. أعطِنا إقامةً دائمةً نخلَعُ على متنها كلَّ معارِفِنا فَنَتَمَتَّعُ بسعادةٍ أمِّيَّة.

نرتَدي روايتَكَ.. فساتينُ الروايات المفصَّلةُ بِدبابيسِ العشقِ الصَّرف تغسِلُ الخَطايا وتغازلُ الخيّاطين. سنُنافِسُ بأَكمامِها أزرارَ الورود وكُلَّما داهَمَها النَّدى متباهيًا بِرَذاذِ تثاؤباتِ الله سَنَمسَحُ دُموعَنا مخاطبينَ خُلوفَ فمِ مَولانا قائلينَ: “أتسمحُ نستنشِقُ ريحَ المسكِ الخارجِ بينَ النَّهدَةِ والنَّهدَة؟وكلّما توغَّلنا في غابَةِ استوائِك خَجِلنا من عودَتِنا الى غابةِ التُّفَهاء. ونقول في سريرَتِنا لم لا تؤسَّسُ جمهوريةٌ للحبّ لا يكون في جعبَةِ تاريخها قتال. لا يكون فيها حرب سوى ما تشنّهُ القُبَلُ على شِفاهِ المُطلَق؟

يستأجر الله شقَّةً مفروشةً في روايتِكَ فتقدِّمُها له من دون مقابلٍ وتشيرُ اليه سبحانَه بأنْ تجوَّلْ في أي صفحةٍ تريدُ أيها المُريد. تحقنُ على مدى عشرينَ فصلاً شرايينَ القلقِ الوجوديِّ بمحلولِ الشَّوق فتخرِجُ الرّوميَّ والتَّبريزيَّ من تلافيفِ العقل الى تجاويفِ القلب. يحلُّ القرآنُ ضيفًا على القراءةِ فيؤذِّنُهُ الصّمتُ ويجوِّدُهُ التنهُّدُ ويتوضَّأ المؤمنُ بالحبِّ قبل تلاوَتِه فَيُغتالُ الوصفُ في وضحِ الكلمات.

” مولانا” ديانةٌ بلا جُدران مجهولةُ الإقامَةِ ومتواريةٌ عن الأنظار. أسكَنتها بِهُيامِكَ بعيدةً عن نتانةِ الجيفِ وجشعِ الكلاب. أشبعتَنا بِرِفقَتِها جوعًا الى مخالفة النَّفس. إما التُّخمَةُ والفِرقَة وإما الجوعُ والدُنُوّ فَموتوا قبل ان تموتوا ليكون نَظَرُكُم حديدًا. على الطريق لا تُنسِنا بهجةَ التحفّظِ على متعةِ النَّزَق ولذَّةِ التملُّكِ الأنيق. ومن السجن الى السراج قِفلٌ صدئٌ صبَّتْ عليه روايتُكَ زيتَ الصّبرِ ونبيذَ الهدوءِ فدخلَتِ الحريَّةُ الى أرجائه ملِكَةً كما يدخلُ الممكن في المُحال.

صديقي الدكتور محمد، أيها المُحَلِّقُ بلا خوذَةٍ في فضاءٍ بلا شَهيق خُذنا الى معارفَ تتساقطُ كالدُّموع وحقائقَ تنهمرُ كالنَّدى فوق عطَشِ الحقول. رُدَّنا إلى الكَرخِيِّ يتدثَّرُ بقرآنِه ويتصدَّقُ بِمِعطَفِه فلقد شَحَّ الأساتذةُ الأولياء ونَدُرَ التلامذةُ الأوفياء فاعطِنا ربّي أساتذةً كالتِرمذيّ وتلامذة كالروميّ وهِبنا معلّمين كالمسيح واتباعًا كيوحنا الحبيب واجعلنا نردد مع محمد إقبال: صيَّرَ الرومي طيني جوهرا..من غباري شادَ كونًا آخَرَ”.

وختم ألفا: “صديقي الدكتور محمد، شيءٌ مريبٌ يحدثُ بين ” دار الأمير” ومطبعةِ الكُتُب. مقامُ الحبِّ يقع في الصفحة ١٩٥ أي في منتصفِ الروايةِ تمامًا دونما احتسابٍ لسيرَتِكَ التي ليست فصلًا في الرواية. مقام الحب يقع تمامًا في منتصَفِ الكتاب. ما قبلَهُ بُطَينٌ أيسَر وما بعدَهُ بُطينٌ أيمَن. التهمتُهُ مع واحد وعشرين حبّةٍ من الزَّبيبِ الأحمَر وتعلَّمتُ قليلًا من خلال القراءةِ وفهمتُ كثيرًا من خلالِ الحُبّْ الذي اعتبرهُ تِيار ده شاردان طبيعةً تدخل في طبيعة كَونٍ يتمدد باستمرار يحاورُنا الله من جوفه اللامتناهي… شَتَّان..”.

وقدم الدكتور طراد حمادة قراءة نقدية في الرواية بعنوان “مقامات سمفونية الترجمان في رواية أيام مولانا”، وممّا قاله:

“يدخل محمد حسين بزي في روايته “أيام مولانا وقواعد العشق الأربعون في حلقة الرواية الصوفية المولوية التي نسجت من سيرة وسلوك ووجد وعشق وشعر مولانا جلال الدين الرومي طريقاً في الرواية التي تترجم في فصولها ما تركه الرومي في قلوب العاشقين وسلوك المريدين وصفير قيثارة السامعين.. وسرّ القيثارة يهدى لذويه”.

وتابع حمادة: “يطرح هذا النوع من الإنتاج الأدبي الصوفي إشكالية العلاقة بين الأدب والفلسفة عامة والتصوف خاصة. في معنى الجواب على السؤال التالي:هل يمكن الإفصاح عن نظرية فلسفية أو صوفية في نص أدبي روائي أو شعري.؟ وهل يمكن طرح نظرية فلسفية مستخلصة من عمل أدبي؟

الجواب أن ذلك ممكن لأنه موجود ومتحقق في الإنتاج الأدبي والفلسفي على السواء، ولأن الأدب والفلسفة يتفقان في أداة الإفصاح وهي اللغة وفي موضوعات عديدة مشتركة تتعلق في الوجود الإنسان في الخلق والحق والطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، لكن السؤال الإشكالي الأساسي يقوم على قدرة الحفاظ على أدبية النص مع صوفيته وصوفية النص مع أدبيته. في معنى الحفاظ على الأصيل في هذه العلاقة..أنا أذهب إلى ترجيح أن رواية “أيام مولانا” هي عمل روائي استطاع الحفاظ على أصوله الأدبية وقدم عرضاً مشوقاً لأفكار صوفية وفلسفية مكتسبة، وأن قصده لم يكن إنتاج هذه الأفكار، ولكن كتابة الرواية وعلى الآخرين أن يأخذوا منها ما هو محل تحصيلهم.

تبدأ الرواية التي تقسم الى عدة مقامات بذكر شهاب الدين السهروردي في قصته الرمزية “الغربة الغربية” وتترجم حياة جلال الدين الرومي مستندة إلى سيرته في مصادر عدة، وتعرض هذه السيرة في فصول تجعلها مقامات في منازل الطريق والمقامة ما ثبت من أحوال وتضع لها مختارات من شعر الرومي مرة ومن أدب مرشده شمس تبريز ثانية، وتربط علة البحث فيما يشبه التعلق الذاتي حيث جعل اسم شمس ابنته على اسم شمس تبريز. وفي التعقل الفلسفي الذي يظهر؛ كان شيخ الإشراق السهروردي قد قاد محمد حسين بزي من يده إلى جلال الدين الرومي وشمس تبريز، وحمله إلى مصافحة أعلام التصوف من نجم الدين كبرى إلى محي الدين بن عربي. لكن ما الصلة الواصلة بين شيخ الإشراق وجلال الدين الرومي، هذا ما كنا نبحث عنه لأنه لا يبدو متحققاً في تاريخ التصوف للرجلين ولكنه متحقق في البناء الفلسفي والصوفي لكاتب الرواية التي تطفحبرموز الصوفية وأدبهم وسيرة أعلامهم ومواجيد شعرهم وشطحات وجدهم وعشقهم، حتى أننا حين نفتح باب أسرار الرواية ندخل إلى منازل العشاق ومسارح مقاماتهم وخلواتهم، ونصغي إلى موسيقاهم ونرقص في محافل الوجد والطيران إلى فضاء المحبوب، هذا المسرح الصوفي يعيد محمد حسين بزي ترتيب مقاماته ويضع له ما يشاء من صور ولوحات ومن شخصيات عبر في حركة الأيام والفصول، إنه إعادة كتابة تاريخ معنوي بطريقة صوفية ويشبه إعادة توزيع موسيقى لسمفونية رائعة تتجدد فيها آلات العزف وتوزيعها، ولكن تبقى محافظة على نوتة تأليفها الأصلية وهذا معروف في القصص الصوفي وحكايات العرفاء وكذلك في أدب المعراج الصوفي تتعدد الكتابة حول تاريخ واحد وسيرة واحدة، ولذلك فإن في رواية “أيام مولانا” ما يشبه الجمع بين التاريخ الواقعي والمتخيل، لأنه جعل من الأيام الحقيقة لمولانا وهي سيرته التاريخية موضوع رواية تدخل فيها كل عناصر الفن الروائي هذا من ناحية كتابة السيرة في الرواية. أما السرد الروائي فإنه يمضي في طريقة القوم ويحافظ على سرديته المستقاة من نصوص الأصحاب وعلى شعريته المتوفرة عند كل نص صوفي، ويكتفي أن يجعل كل ذلك في مقامات هو ترجمانها، وعليه فإن التاريخ الواقعي لأيام مولانا من بلخ إلى قونية وقبل صحبته مع شمس تبريز إلى ما بعد غيابه عنه تجتمع مع السيرة الروائية المتخيلة كأنها إعادة توزيع في الإفصاح، ولأن السيرة الواقعية مشبعة بعناصر الإفصاح الصوفي فإن سردية الرواية المتخيلة لا تضع بين النص الروائي وبين النص الصوفي المقتبس حجاباً، ولا تجعلها على طريقة الفلسفة الظواهرية معلقة بين قوسين أبويه، بل تدرجها في وحدة متقنة البناء، وهذا يعطي للرواية قيمة فنية مضافة..”

وختم حمادة: “ولأن العرّافة التي قرأت الغربة الغربية هي الراويةً يصبح دورها في معرفة عودة الغريب إلى حماه وهذا ما يبدو أن بركة قد تكفلته في سيرة جلال الدين، إذاً السر أبعد من أثر السهروردي على محمد حسين بزي ومن صلة السهروردي بـ “جلال الدين” بل في درامية السيرة التي على ما يبدو يراد لأحداثها أن تجري في عالم المثال.. تلك هي مقامات سمفونية الترجمان”.

ثم كانت كلمة الدكتورة دلال عبّاس، وممّا جاء فيها:

“في ليلة من ليالي الأرقِ الملازمِ الباحثينَ عن معنى من المعاني المتواريةِ وراء حجبِ الغفلة التي عجزت عن إدراكها العقولُ القاصرةُ الملتصقةُ بالقعر المُسمّى واقعَ الحياة، تساءل محمّد حسين بزّي عن سبب قتلِ السُّهرورديّ؛أيقتُلُ الكلامُ قائلَه؟ ما هو الكلامُ الذي يستفزُّ أهلَ الظاهر ويُؤرّقُهم فيمحونه بمحوِ صاحبِه من الوجودِ ما بين غمضةِ عينٍ وانتباهتِها. لقد غاص محمد حسين بزّي في دراسةِ الكلام الذي قتلَ صاحبَه، وتعرّف السُّهرورديّ، وعرّفه، وقرأ الغربةَ الغربيّةَ، فلامس نورَ الإشراق أو إشراقَ النّورِ كما يحلو له التّعبير. وعرفَ معنى الحبِّ الذي يتولّد من المعرفةِ ويجذبُ المُريدَ إلى المُراد؛ ولازمه سؤالٌ مصاحبٌ للأرق، يضربُ الرأسَ بأنغامٍ لا إيقاعَ لها؛ تتفرّعُ عنه أسئلةٌ لم تأته أجوبتها بسهولة:

كيف يصبح الإنسان متصوّفاً؟ أو على الأقل متأثّراً بالفكر الصّوفيّ؟

أهي صدفةٌ أم تقديرٌ إلهيٍّ أنْ تسمعَ وأنت في آخر الدنيا اسم رجلٍ من جبل عامل فتنقدحَ في رأسك فكرةُ أن يكون موضوعًا لدراسة هي الأهمّ في حياتك، أو يقعَ في يدك وأنت في أوّل الشباب كتابٌ فيه كلامٌ على رجلٍ من سُهرورد قتله قائدٌ أُمّيٌّ بناءً على نميمةِ بعضِ المتفيقهة… ومن اهتمامه بهذا السُّهرورديّ الشّهيد تنبتُ لدى محمّد حسين بزّي فروع اهتمامٍ بسائر المتصوّفة، وفجأةً يجد نفسه بين يديّ مولانا، يحتار كيف يدخل عوالمه المتجاوزةَ الزّمان والمكان، ويقرّر أنْ ينقلَ هذه المعرفة إلى الآخرين، وهو يعرف أنّهم [أي الآخرون] ربّما سمعوا اسمَ مولانا أو قرؤوا بعض ما يُنسب إليه، فيقول في قرارة نفسه “زكاةُ المعرفةِ إنفاقها”، وحبّي مولانا بعد السُّهرورديّ يفرض عليّ أنْ أعرّفه للناس … ومضةٌ لمعت في كلّ عروقه دُفعةً واحدةً، تبعتْها رعشةٌ كأنّها الرعد ساعة صيف..!

يضيقُ الوقتُ وبدلًا من التَّفتيش عن جسرٍ لعُبور البحرِ اللُّجّيّ، يسير فوق الماء حافيَ القدمين حاملًا كتبًا وسفائنَ جلديّةً تساعده في اجتياز اللجّةِ كي لا يدخلَ عالمه خاليَ الوِفاض.. ويدركُ أنْ ليس في العشق علوٌ وانخفاض، ولا حَرٌّ أو برد، ولا بعيدٌ أو قريب، ولا قليلٌ أو كثير…يحاولُ أن يُخرِجُ من قعر البحر جواهرَ، ليفتح دكّانًا في سوق المعرفةِ، متحاشياً أنْ تزِلَّ قدمُه في بازار التكبّر؛ خائفاً أنْ يكونَ المشتري قليلَ المعرفة، لذلك يكشفُ له ما وراء الأبوابِ الستّة، والأبوابِ الأربعين؛ومنذ تلك الليلة البيضاء، حوّلت قطرةُ العشقِ ترابَ العالم وردةً تناسلت وروداً على مدِّ العين والبصرِ، وحَصَل في الدنيا مئةُ فتنة وجذبة. وحين ضرب العقلُ والعشقُ فألاً معًا، سالتْ قطرتان منهما، اختلطتا فكان القلبُ… وهام القلب في وادي المعرفةِ يتنقّلُ بين مدن المعاني: من إشراقات السُّهروردي إلى الفيافي التي قطعتْها طيورُ فريد الدين العطّار الثلاثون قاصدةً السيمرغ.

ومن العطّار والجامي انتقل محمّد حسين بزّي إلى نجم الدين كُبرى قارئًا تجلّياته، ومنها إلى قواعدِ الحكيم التِّرمذيّ التي انتظرت طويلًا من يُسلّطُ الضَّوءَ عليها بالعربيّة…

لكن لماذا كتب محمد حسين بزي هذه الرواية؟

لأنّ النظرةَ في الرواية التي سبقتها -رواية أليف شفق- لم تتجاوزْ حدودَ الظاهر في شعر المولوي، ولم تلامس ذرّةً من كنه هذا الشعر؛ فمن لم يتذوّق قطرةً من كأس العشق الإلهيّ، ولا يفهم كنهَ الخَلوةِ الأربعينيّةِ، لا يمكنه أنْ يفهمَ العَلاقة بين المريدِ وشيخه، وأنّ المريدَ السالكَ يجبُ أنْ يكونَ بين يدي مرشده كالميّتِ بينَ يَدَيْ الغاسل، وجلالُ الدين الروميُّ وشمس كان كلُّ واحدٍ منهما بالنسبةِ إلى الآخر السالكَ المُريد والشّيخَ المُراد، ولم يكن أيٌّ منهما متهاونًا بالشريعة وبأحكامها وآدابها [أنا غبار قدم محمّد (ص)، قالها المولويّ]؛ والاثنان كانا يُصرّحان دائمًا أنّهما يُحرّمان ما حرّمَ الله ولا يحيدان عن الشريعةِ قيدَ أُنمُلة؛ وتنطبق عليهما المقولةُ التي أوردها شيخي البهائيّ في مقدّمة مثنويته “نان وپنير” [الخبز والجبن] “من تفقّه ولم يتصوّف فقد تَفَيْقَه، ومن تصوّفَ ولم يتَفَقّه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقّق”.

وتابعت عبّاس: “أتى محمد حسين بزّي بالشواهد الشّعريّةِ من الترجمات العربيّةِ المتوافرة، غير منقوصةٍ، ولا مستلَّةٍ من داخل النّصوص، واللغة الشعريّةُ التي كُتبتْ بها الرواية تجعلك تتوقّف أحيانًا لتتساءل إنْ كان النصّ للمولوي وشمسِه أم لمحمّد حسين بزي، على سبيل المثال: “أنا أيّها الصيّاد عبرت بهم من الطريق ما يحوِّلهم عن بئرين عميقين من بقايا قمصان الوقت ومراود زُليخة قبل أنْ يأخذَني النورُ اللازورديُّ على جبل الطور لألجَ بحر شمس؛ وأرى يوسُفَ في قمصانِ وقتِ الماء حينًا، وحلاوةِ ملوحةِ دموع زليخة أحيانًا، وكنت أرى مرايا ذي النون في بطن حوت المعرفة، وعصا موسى التي استقرّت عميقًا في البحر ولم تفلقه هذه المرّة”.

وختمت عبّاس: “لغة رواية محمد حسين بزّي قرآنيّةُ التأثّرِ كلغة المولويّ، وتبقى قِصّة مولانا وشمس وقواعدُ العشقِ الأربعون روايةً معرفيّةً ذاتَ إسناد تاريخيٍّ يرويها محمد حسين بزّي بلغة صوفيّةٍ مكينةٍ، نقرأُها وتقرأُنا داخل الرواية”.

ثم كانت كلمة الدكتورة منى رسلان، ومما جاء فيها”

“تنفتحُ قراءتي النقديَّة الموضوعيَّة الموسومة بـ “التجلياتُ المعرفيَّةُ قمحاً نورانياً في عين الشمس _ في رواية “أيَّام مولانا وقواعِد العِشق الأربعون” للروائي د. محمَّد حسين بزِّي، على تشكُّل المنظومة البنائيَّة في الرِّواية:

إذ تنكشف أمام القارئ والنَّاقد العارف بالمسار الرُّوحانيِّ والوجدانيِّ، الدينيِّ منه، أو الصوفيِّ تحديداً، رواية “أيَّام مولانا وقواعِد العِشق الأربعون”، بما يُحمِّلُها الكاتب _ الرؤائيُّ من فرادة في القيم الفلسفيَّةِ والحياتيَّةِ، تجعلُها في غموضِ الرؤى، برمزيَّة وخصوصيَّةِ عنوانها (رواية “أيَّام مولانا”)؛ انطلاقاً من معانيه الفيلولوجيَّةِ والتَّاريخيَّةِ، وتلك الاجتماعيَّةِ والحياتيَّة_ الإنسانيَّة، وتينك الفلسفيَّةِ _ الصوفيَّة.

فمن خلال هذا النهج تُدخِّلُ “رواية أيام مولانا” القارئ والناقد في أتون من عوالم فلسفيَّة بتشعُّباتها ومدارسها وطُرُقها.

غير أنَّ ما يُوسِم الشخصيَّةَ التكوينيَّة أو البنائيَّة (التكويَّنية) للرواية، أنَّها تقع في عشرين فصلاً، بـ “قواعِد العِشق الأربعين” مشمولة بمقدِمة ورسالة بزِّي الشعريَّةِ إلى “مولاه”.

إلى مولانا

غادِرني فيَّ وإليَّ، (قونية)

قِبلةُ عِشقٍ طلَّتْ مِن عينيَّ

غادِرني فيَّ…

وإليَّ.. .”

وتابعت رسلان: “لا غيض من أنَّ العمل على تكوين المنظومة البنائيَّة في رواية “أيَّام مولانا ” للروائي محمَّد حسين بزِّي، ينطلق في معارج الطريق الصوفي، قيل أنَّهُ لا بُدَّ للعاشقِ من ذخيرةٍ للسَلِكِ حتَّى يتسنى له مواصلةُ السير. وهنا يكمن الفرق ما بين العشق والعقل. فالعقل مُخالطٌ للطبيعة، والعشق من الذَّات الإلهيَّةِ فهو مُدرك لها دائماً .وفي الواقعِ إنَّ الاتِّساع الهائلِ لِنطاق تأثير الصوفيَّة، فكراً ومنهجاً، يتلمَّسُها الناقد الأدبي المُعاصر، طوال مفاصل الرِّواية، حتَّى يُدرك بدقَّة ما ينطوي عليه هذا الفهم للنَّصِّ الروائيِّ، وللنظريَّات الصوفيَّة المنضوية في المتن الحكائي، والَّتي انبثقت عن مفهوميَّة عُليا للفكر الفلسفي ومُندرجات مِللهِ؛ مدركاً فاعليَّة جلال الدِّين الرومي بعدما “وصل صيتهُ إلى معظم الحواضر العلمية في العالم الإسلامي”، بينما تتمثَّلُ القصديَّة الَّتي يرمي إليها محمد حسين بزّي، عن طريق اختياره للعنوان استقراءً لأيَّام مولانا وأسلوب حياته وطريقته، والعيش مع طُلاَّبه والمُريدين، وتكلُّفه خطيباً و واعظاً، مُتلألئاً وضَّاءً، واختياره لسرديَّات عشقيَّة لمتصوِّفين أثّروا وتأثَّروا بـ “مولانا”، وحكايا عن الدرويش المُتمرّد – شمس الدّين “الذي لم ينتمٍ إلى أيِّ فرقة من الفِرق الَّتي كانت منتشرة في عصره، ولم يعتنق أي فلسفة، …” ؛ وقد بنىعُرفانه على القلب أساساً للارتقاءِ بروحِ الإنسان وسموِّها عن الماديات، في متن النص الروائي، من جهة، وذاك الاستدلال المنطقي من جهة أخرى.

وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الروائي مجمد حسين بزِّي يضعُ كُلاً من “مولاه والقارئ_الناقد في مواجهة المصادر الينبوعيَّة لـ “الأفكار الصوفيَّة” وفِعلُ تأثيرها في عيشه اليومي؛ تلك “قواعد العشق الأربعون” بمنطقٍ عقلي، ناهيك عن مُنطلقات أسيل ماءٍ ليس زبدياً تنضحُ تفكُّراً معرفيَّاً لأُستاذ “مولانا” السيِّد بُرهان الدين.

وتظهر لنا فنيَّة الكتابة الروائيَّة والتجربة الجماليَّة، إذ يصوِّر الروائي مقام الإشراق، في روايته “أيام مولانا”، في خلواته وتفكُّرِهِ برمزيَّة الحجر. وكأني بك تسمع قلبه الخفَّاق يُنشد فيها إضماراً وتوْريَّة أو جهاراً وتبييناً: هُنا الكعبة طوَّاف فيها أنا، وهُنا البيت والبَيعة، مشدوهاً أُقيم فيها مؤمناً ومشعر مِنى، أطوف بين حجرين “الصفا والمروى”.

ههنا حري بنا أن نستكشف أهمية “المكان” الكياني المُقدَّس، والأخذ بـ بُعده الثقافي، وذاك الوجودي. “فالمكان رحم الوجود وغيابه الخواء والعدم” .

_ “فأيُّ سرِّ في هذا الحجر..؟! ” (يقول “الفتى _ مولانا)؛ في تصوير لمشهديَّة مباشرة ومقنعة تتجسَّدُ أمام ناظريك؛ عبر توسُّلِ إخراج جماليات المكان من الحيِّز السكوني – الجامد، إلى الرحاب التفاعليَّة – التواصليَّة، في توليفة تتكشف للفتى بحِسِّه وحدسه.

– “كنتُ أُفكِّرُ برمزيَّة الحجر..!”.

ليخلُص إلى صفوة المُبتغى:

_” رُبَّما كي تعود من مكَّة وقد حطَّمت جميع أحجارك (أصنامك)، تعودُ بقلبٍ مُحبٍّ رحيمٍ، بقلبٍ لم يعُد حجراً…؟!. “.

وختمت رسلان: إنَّ الرواية الفلسفيَّة التي عكف على سرديتها الروائي بزِّي، شابكاً الماضوي منها بالمُستقبل، المضمر بالتجلّي والكشف، اللا مكان بمكان الدهشة ثمَّ تليها سكينة الروح، فيخيّم عليها منحى الاصلاح في كل زمكان؛ بعيداً عن العصبيات وأيديولوجيات التمركز حول العِرق والدين؛ والتعالي عن الارتياب والتأرجح، وهي تتماهى مع الترميز الصوفي بالانفصال الرمزي عن الذات، في رحلة الكشف؛ حتى أنَّ الناقد أو القارئ ليخال نفسه وكأني بالنص الفلسفي يستنطقه حضورياً ووجوديَّاً، ويدفعه إلى مُجالسة الذات في رحلة التشافي المعرفي والإنساني، والمُثاقفة مع الأنا والآخر، مع التقليد والتجديد. إنَّ “أيَّام مولانا” برمزيَّة اللا زمانيَّة، وخاصيَّة المكانيَّة، يستعرض فيها الروائي، بخلفيته الأكاديميَّة، رؤاه الفلسفيَّة، رابطاً الروحي في روايته باتجاه التعمُّق / أو التفكُّر بالإنسان والسياسة وحضارة الشعوب، ناهلاً من الثقافة والتُراث الإسلامي الفوَّاح.فالتكثيف اللفظي، وذاك المشهدي، والعبور في الرواية غالباً ما يرتبطان بموضوعي “العقل” و “الروح”، أو “الشكل” و “الجوهر”؛ كي يُحقِّق “مولانا”- الشخصيَّة الحاضرة على مستوى السرد الحكائي في الـ 400 صفحة وجوده؛ وكي ينطلق إلهامه من الدوافِع الدَّاخليَّة إلى الخارجيَّة، ومن الدَّوافع الرُّوحيَّةِ إلى التعبير – التكثيف اللفظي الآسر؛ مُستتبِعاً مساراً تواصليَّاً، يُسافرُ فيه ومعه إلى الحُب، تخلِّياً عن الذات الأنانيَّة، بالاستسلام الكُلِّي – طوعاً للفيض.فما كان شمس التبريزي أفولاً، ولا كانت “أيَّام مولانا” مُقفِرةً، بل كانت عيون مولانا توّاقة لرؤى جماليَّة مملوءةٍ بالحق تعالى؛ وكانت استراحةُ الـ “شمس” في قونية ترفلُ بالحُب الظمئ اللا متناهي، للإنشاد المولوي”.

وختم الحفل بكلمة شكر للدكتور محمد حسين بزي، ثم وقع الرواية للحضور.

 

Leave A Reply