صوتُ فيروز… ما هو؟

مِنَ التصنيفات التي لا تركبُ على قوس قُزَح أنّ صوت فيروز صَبَاحيّ، وقد اعتمَدت إذاعات ومحطات تلفزة هذا التصنيف فبات أغلب ما تذيعُه أو تعرضُه من أغانيها، في الصباح، بادّعاء أن تلك الأغاني تناسب المزاج الرائق الذي يقدّمه الصباح للإنسان.

وفي ظني أن من اخترع هذا الموعد، تقليديّ تماماً في نظرته الى الأصوات والفنون عامةً ، ومن غير الجائز، بل من الجائر وضع صوت فيروز في هذه الخانة التي لا تضرّها طبعاً لكنها تؤطرُها في توقيت معين يبدو معه أن تغيير الوقت ليس مناسِباً. لا، صوت فيروز هو إبن المزاج كيفما كان وفي أي توقيت كان، وليس خاضعاً لصباحٍ هنا، ومساء هناك، وظهيرة هنالك. الصوت الذي يكشفكَ في الصباح وانت ما يشبه صفحةً بيضاء، هو الصوت الذي تكتشفُهُ أنت في المواقيت الأُخرى. فهل غريب الاستماع إليه في مواعيد متفرّقة من النهار والليل والواقع بينهما. لا جواب عند المدافعين عن صوت فيروز الصباحي إلّا أنهم اعتادوا ذلك، وهُم غالباً يحدّدون الأشياء بالاعتماد على العادة أو المألوف أو الذي لكثرة تكراره يصبح حقيقة. إن الرشاقة والرهافة في كلام وألحان الأخوين رحباني يقدمان سلاسةً وعُمقاً أيضاً، وإن نسبةَ أغانيهما مع فيروز، إلى أوقات معينة، هي مبالغةٌ مُحِبة ربما، إلّا أنها محبة لا تحيط بما يحمل الصوت من معانٍ رائعة وأفكار دافئة ومشاعر مسكونة بالرضا.. وهذا كلّه من الحياة نفسها ، والحياة لا صباح ولا مساء ولا ليلَ يمكن أن يقيّدها. وأنا أشير إلى هذه المسألة لأنها تعمّمت وتكرّسَت من دون أن يُعطَى لها تفسير موضوعي لا في طبيعة الصوت الغنية بالإيحاءات ولا في طبيعة الأشعار والألحان التي تُراكِمُ الجمال على الجمال. ينبغي الخروج فوراً من هذا التصنيف مع ضرورة إبقاء أغاني فيروز في الصباح وسَحْبِها على كل النهار.

أعرف أن الفترات الغنائية الصباحية دقيقة إحساساً، ويُفَضّل فيها الإستماع الى الأغاني الجميلة والخفيفة، والجمال في أغاني فيروز لا ينضب، كما أعرف أن اللجوء إلى تلك الأغاني هو حتى لا يتورّط بعضهم في بثّ أغان ثقيلة الظلّ، أو غير منتظمة في سياق جمالي، أو قائمة على موسيقى وكلمات ضعيفة ينفر السامع منها. لكن، أعود إلى لكن، ينبغي مراجعة ما يذاع صباحاً بحيث يتم اختيار أغانٍ تتسم بالهدوء والرقة والإتقان، وفي مكتباتنا الإذاعية الكثير منها، فقط حتى لا يطلَع علينا مِنْ يقول إن فيروز «تحتكر» الصباح بعدما احتكرَت الريادة والسيادة الغنائيتين في بلادنا!

أمّا أداء فيروز كممثلة فقد تقدّم بطريقة منطقية وموضوعية، فهي ليست تلميذة جامعية، لكنها إبنة الحياة، والشخصيّات التي كانت تلعبها هي من الحياة، فلم يدخل في تمثيلها التمثيل، بل محاولة نقل الواقع الإنساني لأيّ دور كان: بساطة وطبيعة ذكية، ولا تصنُّع في الحركة ولا في القول، واللفظ السليم الواضح والنبرة التلقائية… لذلك لا يستطيع أحد القول انها كمغنية كانت أقوى منها كممثلة،

بل كان التمثيل نتيجةً عمليّة هادئة لِما في النص المسرحي من أخبار وأسرار وأفكار!

والتصنيف بالتصنيف يُذكَر: كما صُنّفَت فيروز صباحيّة، صُنّف عاصي ملحناً فقط. وكل الأدلّة على عكس ذلك لم تنفع. لكن التذكير يفيد: ففي عزّ تصنيف الجمهور لعاصي بشاعر المحكية، ولمنصور، ككاتب فصحى، وهذا خطأ (لأن عاصي ومنصور شاعران بالفصحى والمحكية)، نشبَت مساجلة هجائية بالشِّعر الكلاسيكي الفصيح الموزون المُقفّى بين الشاعر عاصي الرحباني والشاعر الناقد جورج جرداق… وتناوَبا أسبوعيّاً على نشر قصائدهما الهجائية، الغليظة اللفظ، الوحشية البريئة، المبنية على البحر «الكامل» وقافية الألف والنّون المكسورة.. (وهي مباراة حُبّيّة ووديّة !) في مجلّة «الشبكة» على اربعة عشرَ عدداً عام ١٩٧٠. وكانت بمثابة ظاهرة إبداعية في الشّعر والظُّرف… ولم يقتنع «المُصنِّفون»، لأن طبعهم الشكّاك غلبَ التطبّع وظلّوا يقولون مُخطئين عاصي للمحكية، ومنصور للفصحى.

من إحدى قصائد عاصي غير المنشورة:

لَمْلِمْ جراحَكَ فالجراحُ أغانِ

يا قلبُ واسْبِقني إلى النسيانِ

كل الذين تَبَاعَدوا عَنّا لهُم

في البالِ مُتّسَعٌ ورَحْبُ مكانِ

لَوّح لهُم آنَت أواناتُ الرضا

وشَدَا الربيعُ الطّلْقُ في الأغصانِ

يا قلبُ واحْمِلْني إلى وادي الهوى

فأنا وأنتَ هناك مُنزرعانِ

فما هو سرّ صوت فيروز؟

لا تعريفَ لصوت فيروز. وإذا كان التعريف لتصِفَ الوردة بأنها وردة، والبحر بأنه بحر، والغيمة بأنها غيمة، فصوت فيروز يستطيع أن يخلق بنفسه الغيمة والوردة والبحر بمجرّد أداءٍ لدقائق. مساحته لا تختلفُ عن مساحة أصواتٍ أخرى،في القرار(المنخفض) وفي الجواب (المرتفع) لكنه قادر على الضّرب على نوتات عالية من دون أن يبدو الأمر صراخاً، وأن يضربَ النوتات المتدنّية من دون أن يبدو الأمر ضعفاً. طولُ صوتِها وعرضُه وعمقُه يبرز حتى في الأغاني التي تسمّى سهلةً. من هنا الكلام عن معاني الصوت، معنى الإنفعال الطبيعي الميّال إلى الفطري منهُ لا إلى لعبة الإحتراف، رغم أن الإحتراف لا يفارقُه. أقصد الإحتراف الذي يميّز الحروف والنوتات والأنغام تمييزاً مثاليّاً من دون أن يكشف عن عضلاته! لا أعتقد بوجود فنان يغني من دون الإهتمام بإبراز تفاصيل الصوت ونقلاته. لكنْ قلّة فقط هي التي توصلُ المعنى المُغَنّى (كلامه أو أبعادَه) ومعهُ توصِل الأفق الصوتي المترامي خلفَه.

القصيدة المغنّاة، أو الأغنية الشعبية، الإيقاعية أو الرومنسية، والتأمُّلية أيضاً تنفتح عليك بداية من تركيبة اللحن الرحباني، ثم من أيّ مطلَع صوتي قبل أن نصل إلى المتن ثم الختام. يهتمّ الشّعراء بمطالع قصائدهم، عادةً، ويعتبرونها مدخلاً ضرورياً لأي فهم للقصيدة، ويهتمون بالبيت الشّعري، والقفْلَة. عاصي ومنصور كانا، في الموسيقى، يعبران إلى الضفاف الأُخرى من «الأبيات»- الجُمَل بسلاسة، ويتنقلان بحرفة، ويغرقان أحيانا على معرفةٍ بعمق المياه وحين يخرجان يبدوان لنفسيهما مكتشفَين صوت فيروز. ليس عادياً أو نافلاً القول ان عاصي ومنصور أمضيا العمر بحثاً عن صوت فيروز، من البداية إلى النهاية كان صوتها مُلْهِمَهُما، يعملان لأجل الشعر واللحن والمسرح، لكن عملهما مطروح على عينَيّ فيروز، ومن أجلها. أي يعملان لأجْل ذاتَيهما كشاعرين وموسيقيّين ومسرحيّين ، لكن من أجلها هي. كلّ ما فعلاه في حياتهما كعاصي ومنصور كان مسخّراً لصوتها وحضورها وسحرها الغريب العجيب. وكل ما قرأنا وكتبنا وتأمّلنا وفكّرنا في إبداع الأخوَين، وصَل إلينا عبر صوت فيروز. السر الرحباني الذي نبحث عنه ولا نجده ولا نقبض عليه ولا حتى نلمسَه أو نلمحَه، صوت فيروز هو الوحيد الذي أدركه وباركَه. وحين نؤكد على السرّ الرحباني الذي عصيَ علينا في غموضه وفتونه وجمالياته وتلويناته، ولا نعرف الإمساك به، سنمسك به بسيطاً وعارياً ولطيفاً وخفيفاً وهادراً وعنيفاً من.. فم الذّهَب. لا القديس الفصيح اللسان الذي عرَفه التاريخ، بل فيروز!

وأعتقد أن أحد أبرز خفايا صوت فيروز هو أنه يعيدك إلى الطفولة، لا في أغاني الأطفال، بل في أغلب أغانيها. وإن لم تكن مُحِبّاً لصوتها في طفولتك أو أيام شبابك فإنك لا محالة عائد إلى الطفولة معه، وإذا لم تعُد إلى طفولتك الشخصية فإنه كصوت قادر أن يبتكر لك طفولة معيّنة يمكنك الرجوع أو اللجوء إليها. من هنا أكثرَ عاصي ومنصور الكتابة الشعرية عن الطفولة، وأنا أجزم أنّ أجمل أفكار الطفولة هي التي راودتهُما وعبّرا عنها، ولعلّ الأجمل بما لا يقاس عن كل ما كُتِبَ بالمحكية والفصحى وربما بلغات العالم كلّه، تعبيرُ منصور:

تعا تا نِتخبّى

من درب الأعمار

وإذا هِنّي كبروا

ونحنا بقينا زغار

وسأَلونا وين كنتو

وليش ما كبِرتو إنتو؟

… مِنقلّن نسينا

واللي نادى الناس

تايكبرو الناس

راح وْنِسي ينادينا…

هو صوت فيروز. أينما أتيته، وكيفما أتيته،

ستجده سائقاً إليك زمناً تفتقده، وأناساً تحنّ إليهم، وقطعاً سيقودك إلى «مكانٍ» آخر. صوت فيروز الطفل هو الوحيد الذي يمتلك هذه النعمة. مغنّون كبار وكبيرات يحملون في حشرجات أصواتهم وأغانيهم تجارب عشناها أو حالات مررنا بها، فنتذكّر ونذَكّر الآخرين بها، لكن نادراً ما حملَتنا تلك الأصوات إلى الطفولة تحديداً. ربما الى المراهقة، إلى الشباب، إلى الثلاثين فالأربعين فالخمسين وأبعَد أبعَد إلّا صوت فيروز له هذه العلامة الفارقة الملآنة بالطفولة. صوتُ الطفولة الفائضة الرهيفة في الفقر، وفي الغِنى، وفي الجوع وفي الشبَع وفي الصمت وفي الكلام . طفولة هربَت منا وظلّت معنا. طفولة تحضُر غبّ طلَب الأُذُن المشتاقة، فإذا لم تكن مشتاقة، اشتاقت بمجرد الإستماع.

ولأن الشِّعر الرحباني واللحن الرحباني كانا من ينابيع طفولة مغمورة بهناء الطبيعة والحجر والبشر الأنقياء، فمهما كان عاصي ومنصور يغادران إلى الأوسع فإن زوّادتهما هي الطفولة.

وصوتٌ يعتنق الطفولة مذهَباً إنسانياً بالفطرة لا بالإكتساب، على مضمون شِعري وموسيقى كالحصان الجامح.. من أين يأتيه الموت؟

(من كتابي «أسرار الكُنوز بين الرحباني وفيروز» الذي سيصدر منتصف أيلول الجاري)

عبد الغني طليس – الجمهورية

Leave A Reply