“قد تكون أخطر من المخدرات”.. آفة القمار الإلكتروني تواجه شباب لبنان

“أحدهم باع منزل أهله دون علمهم، وآخر سرق مجوهرات أمه ومالها، وهنالك شخص سرق غلّة والده، وبعضهم تعرض للتهديد والابتزاز والضغط، ولم يحتمل فانتحر، حالات إفلاس، وديون ضخمة، كل ذلك حصل في بلدة واحدة، فما بالك ببقية المناطق اللبنانية؟”، يتساءل رئيس بلدية الصرفند، علي خليفة، في معرض شرحه لمدى انتشار حالات الإدمان على المراهنات والمقامرة الإلكترونية في لبنان وتداعياتها على الأمن الاجتماعي.

ويشكل إدمان المقامرة الإلكترونية، واحدا من أحدث التحديات التي تواجه العاملين في لبنان على مكافحة الإدمان بمختلف أشكاله، من مسؤولين وجمعيات ومنظمات معنية، لاسيما وأنه يشهد موجة انتشار “غير مسبوقة” في أوساط الشباب، وفق ما يؤكدون، بعدما بات بإمكان الكازينوهات الدخول إلى كل منزل، دون أي رادع أو دور تلعبه السلطات في البلاد لمعالجة المشكلة.

جائحة كورونا كان لها دور بارز في هذا الأمر، وفق ما تؤكده، راشيل بردويل، الأخصائية والمعالجة النفسية، في جمعية “شبيبة ضد المخدرات – جاد”، فالجائحة التي ألزمت الناس منازلهم، نقلت القمار والرهانات من أماكنها المعتادة إلى المنزل، وباتت متاحة في كل غرفة وعلى كل هاتف، وبات الوصول إليها أسرع وأسهل، “ما سمح لهذه الظاهرة بأن تتنامى وتنتشر على نطاق أوسع بكثير مما كانت عليه من قبل، وجعل الأشخاص القابلين للإدمان على هذه الألعاب أكثر عرضة لذلك”.

يذكّر خليفة بأن المشكلة ليست جديدة، حيث بدأت بالظهور منذ العام 2010، “لكن ومن فترة 3 سنوات، وتحديدا بعد الأزمة الاقتصادية في لبنان، بدأت هذه الظاهرة ترصد بشكل أكبر بكثير في أوساط الشباب، وتمثل بتداعياتها خطرا عليهم، وعلى المجتمع المحيط بهم”.

وبينما يبرر البعض دخولهم إلى عالم المقامرة الإلكترونية بسعيهم لتحصيل “المال السهل” في ظل الأزمة الاقتصادية والبطالة المنتشرة في البلاد، ترى الأخصائية النفسية أن الإدمان على هذه الألعاب، يمثل لكثيرين آلية للتكيف مع المشاكل والأزمات التي يعيشونها، “فيشعرون أن هذه الألعاب مهرب لهم مما يعانونه، فيما هم يتورطون في مشكلة أكبر”.

إفلاس.. سرقة.. وانتحار

دخل رئيس بلدية الصرفند على هذا الملف بالصدفة، قبل ثلاث سنوات، عندما تعرض أحد منازل البلدة للسرقة.

لجأ أصحابه إلى البلدية لكشف الفاعل، ليتبين بعد التحقيق ومراجعة الكاميرات أن “السارق من الداخل”، وفق ما يروي خليفة لموقع “الحرة”، فأحد أبناء العائلة، هو من قام بسرقة مجوهرات والدته، ورهنها مقابل أموال يلعب بها، بعدما بات مدمنا على المقامرة الإلكترونية.

يقول خليفة “المشكلة أن الأهل يرون أولادهم في غرفهم وعلى أجهزتهم وهواتفهم، فيظنون أنهم يتواصلون مع الناس أو يدرسون أو يلعبون، ولكن ما يجهلونه أنه يمكن أن يكون على موقع للمقامرة، يبدد أمواله وأموال عائلته، وهذا حرفيا ما جرى في بلدتنا”.

بعد ذلك تزايدت حالات الانتحار، وفق خليفة، “عندما دققنا بالأسباب، تبين لنا أن نسبة منها ترتبط مباشرة بالقمار الإلكتروني وتداعياته التي دائما ما ترتبط بالإفلاس وتراكم الديون، غالبا لصالح السماسرة الذين يقومون بالإقراض مقابل رهن وفي حال عدم سداده يلجؤون للضغط عبر الرهن أو التهديد بالاقتصاص من أحد أفراد العائلة، وعند هذا الكم من الضغط النفسي والتهديد، لجأ كثيرون إلى الانتحار”.

كل ذلك دفع خليفة لخوض رحلة بحث وتحقيق في هذه القضية، أوصلته على مدى سنوات إلى حالات متنوعة، وقصص مختلفة لمدمني المراهنات وألعاب القمار الإلكتروني.

ساعد بعضهم وتقرب منهم، وساعدوه في التعرف على هذا الجانب المظلم، وفق ما يروي، عاين آلية عمل الشركات المشغلة للمواقع المحلية غير المشروعة، وكيف تمارس إغراءاتها وتشغل أعمالها، وتتصيد ضحاياها، ولا يزال يساهم في الضغط على المعنيين من أجل مكافحة هذه الظاهرة.

المراهنات الرياضية.. البداية فقط

انطلقت قصة جعفر مع المقامرة الإلكترونية من حبه للرياضة ومتابعته الدقيقة لكرة القدم ومعظم دورياتها حول العالم، منذ طفولته.

عام 2016 أخبره أحد أصدقائه بوجود مكان يقيم مراهنات رياضية في الضاحية الجنوبية لبيروت، “تفاجأت بأن الأمر بات متاحا في لبنان، ولم أتردد في التوجه إلى المكان، وذلك لثقتي التامة بمعلوماتي الرياضية ومتابعتي الدقيقة التي من شأنها أن تضمن لي الفوز”.

يقول في حديثه لموقع “الحرة”، إن أكثر ما جذبه في المراهنات، كونها لا تعتمد على الحظ بشكل كامل، “نسبة 70 في المئة من الرهان يقوم على معلومات ومتابعة، ويبقى 30 في المئة للحظ”.

التجربة الأولى لجعفر جلبت له ربحا، كان كفيلا بتوريطه لسنوات بهذه اللعبة، “بدأت الأمور معي بمبالغ صغيرة فائضة عن حاجتي، وما بين خسارة وفوز، كانت بالنتيجة تحقق لي بداية مدخولا إضافيا سهلا، وكنت أهدف منها للتسلية فقط”.

إلا أن جعفر انتقل من اللعب يومي السبت والأحد من كل أسبوع، وفقا للمباريات العالمية الجارية، إلى المراهنة كل يوم تقريبا، “بشكل عشوائي على مختلف المباريات في كل دوريات كرة القدم، ثم انتقلت أيضا إلى كرة السلة ثم التنس وغيرها، ومن 10 دولارات أسبوعيا في البداية وصل معدلي إلى 100 دولار لكل مراهنة، مرتين في اليوم، وصل الأمر بصديقي للمراهنة على سبق كلاب افتراضي، وليس حقيقي حتى، إلى هذا الحد تدفعك إلى اللعب لا إراديا”.

وبدأت الأمور بالتدهور، كان جعفر موظفا حينها، وبدأ يستدين من محل المراهنات، يراهن طيلة الشهر، يسدد الديون من راتبه، ثم يعيد الكَرّة.

“في هذه المرحلة بدأت أفهم أنني مدمن على الرهانات، ولكن في الوقت نفسه كنت أشعر حين أخسر وكأن اللعبة تتحداني، وتستفز “الإيغو” لدي، فتدفعني للرهان أكثر وأكثر، من أجل التشفي وإثبات أني قوي وتقديراتي صائبة، وفي هذه اللعبة كلما كنت أقوى، تعلقت أسرع”.

بات المال بالنسبة لجعفر وسيلة للعب من أجل الشعور بالفوز، وليس من أجل المردود المالي، فكل الأموال التي فاز بها أصبحت تذاكر للعب مجددا، وباتت الخسارة هي النتيجة الوحيدة التي تسجل في رصيده المالي.

“كنت أرفع مستوى رهاناتي إلى حدود صعبة جدا، وفي الوقت نفسه أكثف من وتيرة هذه المراهنات للربح وتعويض الخسائر فترتفع أكثر حظوظ الخسارة، ما عدت أصلا أريد الربح، بل أريد اللعب، ورغم كل حبي لكرة القدم لم يعد يعنيني أن أشاهد المباريات، ووصلت إلى مرحلة اقتراض أموال من أجل المراهنة”.

ورغم محاولة اللاعبين التمييز ما بين المراهنات وألعاب القمار، يدرجها علم النفس جميعها في خانة “المقامرة القهرية”، التي تقوم على إدمان المخاطرة بشيء ذي قيمة على أمل الفوز بمقابل ذي قيمة أكبر. لديهم نفس العوارض والآثار والنتائج التي ترصدها عيادات الطب النفسي.

في هذا السياق، يرى خليفة من متابعته للملف أن المراهنات الرياضية دائما ما تكون نقطة الانطلاق نحو القمار الإلكتروني، حيث أن إدمان المقامرة “سرعان ما يدفع نحو ألعاب عادة ما تكون موجودة على نفس موقع المراهنات، مثل البوكر والروليت والبلاك جاك وغيرها”.

وهذا حرفيا ما جرى مع جعفر، الذي مل فكرة انتظار المباريات لمعرفة نتيجة الرهان، ودخل عالم المقامرة السريعة عبر الألعاب، وكانت لعبة “الروليت” أكثر ما استهواه، بحسب قوله، “انتقلت تماما إلى القمار وجربت معظم الألعاب، كانت الروليت أكثرها أذية، كان كل ما أريده هو الشعور بحماسة المراهنة واللعب والفوز السريع، والروليت كانت الوصفة الأمثل”.

تسببت اللعبة لجعفر بخسائر مالية كبيرة، “وصلت إلى مرحلة بت أكرهها وأكره كيف تجعلني قلقا ومتوترا وعصبيا طيلة الوقت، دون أن أتمكن من التوقف عن لعبها، قبل أن يصل الأمر بي إلى السجن، وخسارة وظيفتي”.

“أخطر من المخدرات”.. وقد يقود إليها

يجزم خليفة، أن إدمان المراهنات والمقامرة الإلكترونية “أخطر من المخدرات”، وذلك لأسباب عدة أبرزها:

– أن متعاطي المخدرات يمكن كشفه بمرحلة مبكرة من سلوكه وشكله وآثار المخدرات الظاهرة جسديا عليه، بحسب خليفة، “ولكن إدمان المراهنات والقمار لا يمكن كشفه إلا بعد فوات الأوان، إن كان إفلاسا، أو ديونا، أو رهنا، أو سرقة، أو سجنا أو حتى انتحارا”.

– متعاطي المخدرات لن يجد مصدرها الدائم بالسهولة نفسها التي يصل فيها متعاطي المقامرة الإلكترونية إلى اللعب الذي بات متوفراً في هاتفه وحاسوبه بمتناول يده متى يشاء.

– إدمان المخدرات قد تكون خسائره المادية محصورة بثمن المخدر، بينما خسائر إدمان القمار لا سقف ولا حدود لها.

ويضيف “عادة ما يقود إدمان القمار الإلكتروني بدوره إلى إدمان المخدرات، لاسيما مع وجود ضغوطات مادية وخسائر ومشاكل تدفع أصحابها للتهرب منها عبر المخدرات”.

من جهتها تقول بردويل، إن إدمان المقامرة يشبه إلى حد كبير إدمان المخدرات. فهو يعمل على تحفيز نظام المكافأة لدى الأشخاص، وبالتالي المدمنين على المقامرة “هم أشخاص يبحثون عن المكافأة والفوز للشعور بنفس المتعة التي شعروا بها في المرة الأولى”.

تشرح المعالجة النفسية أن إدمان المقامرة الإلكترونية يمنح المدمن جرعة عالية من الهرمونات المسؤولة عن التحفيز والمتعة كـ “الدوبامين” أو غيرها، مثلما تفعل المخدرات، فيبدأ بالبحث عنها في كل مرة يلعب ويفوز بها.

وتلفت إلى وجود إمكانية بأن ينتقل مدمن القمار الإلكتروني إلى أنواع أخرى من الإدمان، فقابلية الشخص على الإدمان “قد يتركز على مادة أحيانا أو على سلوك معين في أحيان أخرى”.

مدمن المقامرة الإلكترونية مثلا عرضة ليدخن سجائر أكثر، وقد يلجأ إلى استخدام مواد أخرى تهدئه كالمخدرات، بحسب بردويل، “ولكن ليس إدمان القمار هو ما يجعله يدمن وإنما سلوكه الإدماني، وبالتالي ليس بالضرورة أن كل مدمن قمار يدمن مخدرات، وإنما يكون أكثر قابلية”.

إدمان سلوكي.. وعلاجه أيضا

لا يواجه مدمن القمار الإلكتروني عوارض انسحاب جسدية عندما يتوقف عنه، كذلك لا يعرضه هذا الإدمان لجرعات زائدة، وفق ما تقول بردويل، فهو ليس إدمانا جسديا، بل نفسيا وسلوكيا.

وتوضح أنه ليس كل من لعب أو دخل في مراهنات يعتبر مدمنا، “يجب النظر إلى المدة التي أمضاها يمارس هذه الألعاب ويقوم بالرهان، ويتطلب الأمر دراسة سلوكه عند التوقف عن اللعب، ما المدة التي يمكنه تمضيتها؟ هل يشعر بتوتر وغضب وحاجة ملحة فلا يهدأ إلا عندما يلعب؟”.

هناك كثير من العلامات التي تشير إلى أن الشخص مدمن، بحسب المعالجة النفسية، من بينها الانطوائية والابتعاد عن المحيطين به، الشعور بالتوتر والعصبية عندما يحدثه أحد عن هذا الإدمان، أو يطلب اليه التوقف عن اللعب، وقد يتجه المدمن إلى إخفاء الأمر وإنكاره”.

المشكلة في هذا الإدمان، وفق بردويل، أن ضحاياه عادة ما يتأخرون كثيرا في طلب المساعدة، “أحيانا يصلون إلينا لأسباب أخرى غير إدمان المراهنة وألعاب القمار، يأتون بسبب اكتئاب أو قلق أو بدفع من محيطه بعد تغييرات سلوكية واضحة، ويتضح لدينا في العيادة أن المشكلة ترتبط بالمقامرة”.

قد يختبر مدمن القمار الإلكتروني حالات انهيار وابتعاد عن المجتمع وانعزال عن المحيط، وعند التوقف قد يواجه أعراضا انسحابية ونفسية، كالعصبية والغضب أو التوتر والقلق والتهيج، وهو أمر مشترك في كثير من أنواع الإدمان.

القمار الإلكتروني قد يقود أيضا إلى “الهوس”، بحسب بردويل، التي تلفت إلى أن أكثر التداعيات شيوعا هي الدخول في اكتئاب، “خاصة إذا ما استمروا بوعد أنفسهم بالربح وخسروا سيشعرون بخيبة مستمرة، وهناك من يتعرض لخسائر ضخمة، يمكن أن يعانوا من آثار الصدمة، إضافة إلى الشعور بالعار والندم المتكرر مع كل مرة يلعبون فيها”.

أما بالنسبة إلى العلاج، فيتشابه إلى حد ما مع غيره من أنواع الإدمان، ويتضمن تحديات كثيرة، حيث يتطلب كثيرا من التحفيز الذاتي في البداية لدى الحالة نفسها مع إرادة ونية جدية للتغيير، “وإن لم يكن موجودا، فإن عملنا يبدأ بخلق الحوافز لديه، من ثم توجيهها نحو مشكلة الإدمان”، تقول الأخصائية.

يبدأ عمل المعالجين من تقييم الحالة لمعرفة مدى تقدمها، والدوافع وراء اللعب والإدمان، ومتى يشعر المدمن بالرغبة الخارجة عن إرادته في اللعب، إضافة إلى العوامل النفسية التي تؤدي به إلى السلوك الإدماني، كل ذلك بحسب بردويل “بهدف تفسير نوعية الإدمان الذي لديهم، وشرح عوارضه وكيفية التعامل معها، لكي يفهم المدمن ما هي مشكلته فعليا، وما الأفكار التي تسوقه إلى ذلك”.

“كثير من المدمنين مثلا يؤمنون بالحظ، أو يشعرون بأن لديهم تحكم وسيطرة على ألعاب القمار، أو أن لديهم تحكم بوتيرة لعبهم أو بأسبابها وأهدافها، كل ذلك متخيل وغير واقعي”، بحسب بردويل.

هذا النوع من الأفكار هي التي يستهدفها المعالجون لمساعدة المدمن على إعادة تكوينها مع نظرة مختلفة لسلوكهم الإدماني، وعادة ما يكون العلاج المستخدم مع هذه الحالات هو العلاج السلوكي المعرفي “CBT”.

وتعمل الأخصائية على تزويد الحالات في عيادتها بالمعرفة والأدوات اللازمة ليتمكنوا من مراقبة أنفسهم وشعورهم، بهدف تجنب الانتكاسات، ومعرفة الدوافع التي تجعلهم يلعبون لا إراديا، وتقدم آليات تكيف مختلفة لاستخدامها في حياتهم بدلا من إدمان اللعب والمراهنة.

وتشير إلى أن إدمان القمار، مثل غيره، يزيل الموانع للشخص، سلوكية أو أخلاقية، وقد يودي به إلى السرقة مثلا أو الاحتيال والاختلاس أو أعمال غير مشروعة من أجل تأمين المال للعب.

المعاناة لا تقتصر على الفرد

وتلفت بردويل أيضا إلى أن محيط مدمني المقامرة، يكونون عرضة بدورهم للتأثر النفسي بشكل كبير، “خاصة في ظل خسائر مادية وديون وتغيير سلوكي، تدخل العائلة والمحيط كله في دوامة المعاناة.

هذا الأمر اختبرته سوزان وعائلتها مع إدمان شقيقها، الذي “تحول إلى شخص آخر لا نعرفه”، على حد قولها.

وبينما كان شقيق سوزان يتمتع بحس عال من المسؤولية المالية في المنزل، “بات مستهترا بشكل كبير، يستدين المال من الجميع ولا يعيده، يكذب لإخفاء مصير الأموال وللتهرب من الديون، ويسرق أموالا من أهله”.

تروي سوزان كيف حصل شقيقها على قرض من أحد المصارف بكفالة من أحد معارفه، وصرفه كله في اللعب، “جاء الكفيل يطالبنا أنا ووالدتي بالأموال، رغم عدم علاقتنا بالأمر، وسرعان ما تحول الأمر إلى تهديدات ونوع من الابتزاز بسلامة أخي”.

“الغموض والنكران والمراوغة”، أكثر ما تشتكي منه سوزان في العلاقة مع شقيقها، فضلا عن المشاكل العائلية الكبيرة التي تسبب به إدمانه، وأعباء مالية لا تزال قائمة حتى اليوم، “حين يرتب أحد أفراد العائلة ديونا على نفسه، لا تقتصر التداعيات عليه وسرعان ما تنتقل المشكلة إلى كل العائلة”.

تعاني والدة سوزان من شعور عارم بخيبة الأمل، ومنذ أن وقعت هذه المشكلة تعاني من خجل في محيطها الاجتماعي، الأمر نفسه بالنسبة إلى والدها الذي يواجه عوارض اكتئاب، عاشت العائلة معاناة نفسية متنوعة، “خوف مستمر على سلامة شقيقي، وقلق حول مستقبله ومصيره، بالإضافة إلى الشعور بالعجز التام عن التصرف معه، فيما نزداد كل يوم قناعة بأننا نخسره”.

لم تلجأ سوزان إلى مختصين لمعالجة المشكلة، “لم يخطر الأمر في بالنا، ولم يكن شقيقي مستعدا للخطوة فلم يكن مقتنعا بأنه يعاني من مشكلة، كذلك نحن لم نكن نتصرف بناء على رأي اختصاصي، ومعظم العائلات التي تقع في مشكلة مشابهة ليس لديها الأدوات الصحيحة للتعامل معها”.

بعد انتكاسات مالية تخللها سجن ومحاولة انتحار، تراجعت حدة إدمان شقيق سوزان، التي لا تزال تفتقر للثقة التامة بتوقف شقيقها عن اللعب، “أشعر دائما أنه لا يزال يلعب، ولكن بالتأكيد ليس كما كان في الفترة الماضية”.

تجربة سوزان مع شقيقها كشفت لها عن مدى انتشار هذه الظاهرة في محيطها، “ولكن تحت الطاولة، فدائما ما تلجأ العائلات إلى إخفاء الأمر تجنبا للعار أو الفضيحة وكلام الناس، ولكن في الحقيقة الأمر منتشر بصورة مخيفة في المجتمع”.

مواقع محلية تعمّق الأزمة

على مراحل متلاحقة، حاولت السلطات اللبنانية اتخاذ تدابير للحد من انتشار هذه الظاهرة، لاسيما قبل العام 2019، حيث أقدمت الأجهزة الأمنية على مداهمة وملاحقة مشغلي المراهنات والألعاب، وإغلاق المحال ومصادرة الأدوات والطابعات والأموال، كذلك قامت وزارة الاتصالات بإغلاق عدد كبير من مواقع المقامرة والرهانات، لكن دون تحقيق النتيجة المرجوة.

سرعان ما نقلت هذه الإجراءات المراهنات إلى العالم الافتراضي بصورة تامة، فبدلا من المحال بات هناك مواقع وتطبيقات، معظمها تشغلها شركات محلية حلت مكان المواقع العالمية التي أغلقها لبنان، وجاءت أزمة المصارف ومنع التحويلات المالية إلى الخارج فضلا عن رقابة المصارف على الأموال الواردة، لتنعش سوق مواقع المقامرة المحلية التي غالبا ما تتعامل بالكاش.

هذه المواقع باتت تمثل تحديا بحد ذاتها، نظرا لآلية عملها التي تروج وتنشر الظاهرة بشكل واضح ومتعمد، ولا تخضع لأي نوع من الرقابة أو الإشراف، ويمثل إغلاقها مهمة مستحيلة، في ظل القدرة على تشغيلها من الخارج أو إعادة فتحها بأسماء وروابط مختلفة في حال إغلاقها.

يتحدث رئيس بلدية الصرفند عن رصد سماسرة يعملون لصالح هذه الشركات غير الشرعية، يستهدفون الأماكن التي تجمع عاطلين عن العمل كالمقاهي ومراكز الإنترنت، ويقدمون لهم عروضا مغرية لدفعهم إلى اللعب.

“هدايا، مبالغ مالية مجانية، أو لعب من الجارور”، كلها محفزات يتحدث عنها رواد هذه المواقع، تصل إلى حد مد اللاعبين بالأموال ومقاسمتهم الأرباح بنسب عالية، يقول خليفة “وبكونها مواقع محلية، فإنها عرضة للتلاعب من قبل المبرمجين، حيث يمكن وبحسب متابعتنا أن يتم التلاعب بالألعاب بحيث تتيح للمستخدمين الجدد فرص ربح سريع في البداية تجعلهم يتعلقون أكثر باللعبة، ويحرصون على عدم توقف المستخدم عن اللعب من خلال توريطه من جديد”.

ويكشف خليفة أن لكل موقع محلي وكيل في كل منطقة، “يتم اختياره بعناية، مقربا من أجواء شباب منطقته، ومؤثرا بهم”.

تحقق الشركات من هذه المواقع أرباحا طائلة، فهي تبيع “ليرات” (عملات) للاعبين تشتريها بنصف سعرها من الخارج، وتقاسم الرابحين بـ 10 في المئة من أرباحهم، وتفوز بكل الخسائر المسجلة لديها، كذلك يحقق المندوبون نسبا عالية من الأرباح، قد تصل إلى نحو 10 في المئة.

أما بخصوص المواقع الخارجية، فما حجب منها لا يزال ممكنا تخطيه عبر برامج “Vpn”، بحسب خليفة. والمفتوح منها لا يمكن إغلاقه إلا بأوامر قضائية خاصة، وفق ما يؤكد وزير الاتصالات اللبناني، جوني القرم، لموقع “الحرة”، واضعا الكرة في ملعب النيابات العامة ووزارة العدل، نظرا لمحدودية قدراته قانونيا، مؤكداً استعداد وزارته للمساهمة في مكافحة هذه الظاهرة المضرة، إذا ما أمر القضاء بذلك.

أمر يؤكده مصدر في الأمن الداخلي لموقع “الحرة”، حيث يشير إلى أن الدور الأبرز في هذه القضية يعود للقضاء الذي يتوجب عليه من جهة إصدار أوامر بإغلاق المواقع وملاحقة من يديرها، “ومن جهة أخرى فإن الأحكام التي تصدر عادة في هذه القضايا ليست رادعة بشكل كاف، وبالتالي التوقيفات التي تجري في هذه القضايا لا تستكمل بإجراءات عقابية مناسبة وجدية لاسيما وأن القانون يعتبرها جنحة وليست جناية”.

التشريع.. حل أم مشكلة؟

وبينما تتصاعد الأصوات المطالبة بتدخل المعنيين من أجل حجب المواقع وقمع هذه الظاهرة، يرى آخرون في سياسات القمع والحجب تهديدا للحريات في الفضاء الإلكتروني، ومنهم المدير التنفيذي لمنظمة “سميكس” محمد نجم، الذي سبق له أن عارض مساعي وزارية سابقة لحجب مواقع إلكترونية عالمية خاصة بالمقامرة.

ويرى المعارضون أن سياسات الحجب والمنع أظهرت بالتجارب فشلها بمعالجة ظواهر إدمان كهذه، وبدلا من ذلك يقترح نجم “العمل على تشريع المقامرة الإلكترونية، بحيث تخضع للرقابة والإشراف وتحدد شروطا صارمة للمشاركة واللعب، ويفرض عليها ضريبة عالية، وهناك كثير من البلدان لديها تجارب ناجحة في هذا المجال، بدلا من الإغلاق غير النافع”.

ويضيف “لا يمكن المنع بحجة الإدمان، فكل مواقع التواصل الاجتماعي اليوم تسبب الإدمان، تيك توك يسبب الإدمان.. هل هذا يمثل سببا لإغلاقها؟”.

وكان لبنان قد انطلق بتجربة جديدة مع تشريع ألعاب القمار الإلكترونية، أثارت في الفترة الماضية بلبلة كبيرة، بعدما طرح “كازينو لبنان”، الذي يحتكر إقامة وإدارة العاب القمار على الأراضي اللبنانية، منصة إلكترونية تحت اسم “بيت آريبيا”.

وبينما تمحور النقاش السياسي حول أحقية الكازينو في احتكار ألعاب القمار الإلكتروني كون القانون لا ينص بشكل واضح على ذلك، رأى كثيرون، ومن بينهم مسؤولون حكوميون، في هذه الخطوة إنذارا بإمكانية مضاعفة مشكلة إدمان المقامرة التي تنتشر في المجتمع اللبناني.

وزير الشباب والرياضة اللبناني، جورج كلاس، كان من أبرز من رفعوا الصوت في هذا الشأن، إذ كانت خطوة “كازينو لبنان “مفاجئة بالنسبة له، نظرا لتعارضها مع أهداف وزارته الساعية لحماية الشباب من مخاطر الإدمان عموما، والقمار ضمنها.

“ممنوع أن يكون هناك كازينو في كل بيت في لبنان، بدلا من أن نقدم فرصا للشباب للإنتاج والعمل”، يقول كلاس في حديثه لموقع “الحرة”.

وطرح كلاس القضية على رئيس مجلس النواب، نبيه بري، وينقل عنه مطالبته إياه “بالتصدي” انطلاقا من المسؤولية الوطنية، كذلك فعل في مجلس الوزراء “وكان هناك تجاوبا من رئيس الوزراء نجيب ميقاتي، وجميع الوزراء نظرا للخطر المتمثل، خصوصا أنه بات يسجل كثير من حالات الانتحار المرتبطة بالقمار الإلكتروني سببها الأول هو حالات الإفلاس والديون”.

في النتيجة تمت إحالة القضية إلى وزارة المال لدراستها “وحتى الآن لم يصدر أي شيء” يختم كلاس، مناشدا جميع المعنيين من قوى سياسية ودينية وأمنية وجمعيات أهلية للضغط من أجل منع تشريع هذه الألعاب تفاديا لأضرارها.

حسين طليس – الحرة

Follow Us: 

Leave A Reply