عودة إلى الالتزام

عبّاس بيضون*

ابتعدنا بما يكفي عن تلك الآونة في أواسط القرن العشرين التي كان فيها العرب، مثقّفوهم وحتى عوامهم، في حالة من الغليان السياسي الذي أعقب سقوط فلسطين وبدايات الصعود القومي. هذه المرحلة شملت قيام الناصرية ومعها الأنظمة العسكرية، وبالطبع، فيما بعد، هزيمة حزيران وقيام المقاومة الفلسطينية. تلك الآونة كانت أيضاً فترة تسييس واسعة شمل الأدب، وبنتيجة ذلك سارت دعوة للالتزام تحدّرت من الواقعية الاشتراكية التي سادت المعسكر الاشتراكي، ومن السارترية من ناحية أُخرى.

كان المثقّفون الشيوعيّون وراء دعوة الالتزام، لكن القوميّين تلقّفوها أيضاً، وهذه المرّة من الوجودية السارترية، التي صادف أنها صارت في أساس التنظير القومي العربي لدى المثقّفين العائدين من فرنسا. يمكننا أن نفكّر عند ذلك بساطع الحصري وسهيل إدريس وعبد الله عبد الدايم، لكن الغريب أنَّ الكتّاب الذين اتُّهموا بالغربنة والذين استمدوا يومذاك من السجالات القائمة في الغرب، هؤلاء كانوا أقرب إلى الدعوة إلى الحرية والفردية، كما هي الحال مثلاً في جماعة مجلّة “شعر”.

كان هؤلاء ضد الالتزام بطبيعة الحال وجرّ عليهم هذا تهماً سياسية بالانصياع للغرب، بل والعمالة والتنكُّر لمجتمعاتهم ولأمّتهم ولمستقبلها وآفاقها. لم تكن هذه التهم في فترة الغليان القومي وما بعد الجرح الفلسطيني، سهلةً ولا بسيطة، فقد كانت الخيانة والعمالة من بينها. الأرجح أنَّ الدعوة القومية والوحدوية بعد سقوط فلسطين كانت تركّز بصورة أساسية على إنشاء قوّة عسكرية بالدرجة الأولى لم تكن الدولة المنشودة سوى دولة هذه القوّة، يُفسّر هذا قيام أنظمة عسكرية في العالم العربي، كما يفسّر غياب الدعوة إلى الديمقراطية التي لم تكن، ذلك الحين، من مقوّمات القوّة. بل ربما كانت الديكتاتورية أقرب، في الخيال القومي، إليها.

رفض الالتزام جرّ على مثقّفين تهماً بالانصياع للغرب

من هنا نفهم أن الدعوة إلى أدب حرّ وفردي كانت من باب الدعوة الديمقراطية التي استقطبت، في جملة ما استقطبت يساريّين، فالواقعية الاشتراكية كانت بدأت تغدو موصومةً ومعاديةً للإبداع والخلق الأدبي والفني. كان الغرب اليساري أيضاً لا يحتفل بالواقعية الاشتراكية، وهي كلّ إرثنا من الالتزام، ويرفضها. كما أنّ الأدب العربي الحديث وجد في الالتزام القومي استمراراً للانصياع الديني وتكراراً للقبلية والأخلاق البطريركية. لذا اتجه إلى الدعوة إلى حرية كانت أحياناً تصطدم بالتعبئة القومية، وعند ذلك تتراجع، كما حدث مع مجلّة “شعر” التي موّهت نفسها بعددٍ عن ثورة الجزائر، التي كانت محور التعبئة القومية آنذاك. لا بد أنّ قيام توفيق صايغ بإيقاف مجلّة “حوار” بعد أن اتُّهمت “منظّمة الحرية العالمية” التي تُصدرها بالصلة بالمخابرات الأميركية، كان هزيمة لهذا التيار وانتصاراً لخصومه. بيد أن هذا لم يجد مقابلاً في الأدب؛ فقد بقي التيار الحر مستمرّاً.

ينبغي أن ننتبه هنا إلى أنّ الأدب الفلسطيني، الذي خرج من فلسطين نفسها، كان بالتأكيد نوعاً من التسوية بين التيارَين. لم يكن الأدب الفلسطيني بحاجة إلى الدعوة للالتزام، فهو يقوم عضوياً على قضية هي في أساس التعبئة القومية، في حين أنَّ هذا لم يُثنه عن الانخراط في التيار الحر. من هنا يمكن أن نفهم أنّ مسألة الالتزام لم تعُد، بعد ذلك، بحاجة إلى دعوة، فقد أمكنت المصالحة بين الحرية والدعوة. ربما لذلك توقّفت دعوة الالتزام عن أن تبقى محوراً. لقد فاز التياران، أمكن للأدب في ذات الوقت، أن يكون ملتزماً أو غير متلزم.

استمرّ التياران بالتوازي، في التجريب وفي التطوُّر وفي البحث. لقد وُجد أدب، وبخاصة شعر، يمكنه أن يكون في آن واحد، وبدون أي تسمية، واقعياً ومباشراً وغريباً وشخصياً وفردياً، بل أمكن للشعر، في هذه الحال، أن يكون شخصياً بقدر ما يكون جديداً.

إنّ عودة الجيل الشعري الجديد، في جزء منه، إلى جيل “البيت” وإلى بوكوفسكي، هي عودة إلى شعر يسجّل، على نحو ما، وبصورة شبه مباشرة، الحياة اليومية. يمكننا أن نفهم من ذلك أنّ الالتزام والحرية معاً صارا بعيدَين عن السجال، وأنَّ الأدب يحتوي الاثنين بدون تعارض بينهما.

* شاعر وروائي من لبنان

المصدر:العربي الجديد

Leave A Reply