حوار برّي إمساك باللعبة أم إنزال المتسلّقين عن الشجرة؟

سابين عويس – النهار

وسط الانسداد السياسي المسيطر على المشهدين الرئاسي والحكومي، وتريّث رئيس المجلس نبيه بري في تحديد موعد جلسة الانتخاب الخامسة، بعدما تضاربت المواعيد مع زيارة الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين، واستعجال رئيس الجمهورية ميشال عون إنجاز التوقيع على الترسيم قبل انتهاء ولايته بعد أقل من أسبوع، وتحديداً خمسة أيام، يصبح السؤال مبرّراً حيال أي موعد يسبق، الدعوة الى جلسة انتخاب أم الى طاولة حوار كان رئيس المجلس قد كشف عن نيّته توجيهها الى القوى السياسية من أجل تأمين أوسع تأييد نيابي لانتخاب رئيس توافقي من خلال تقريب المواقف تمهيداً للتوافق على اسم الرئيس العتيد؟

مبرر السؤال أن بري نفسه بات يشعر، بعد أربع جلسات انتخابية فاشلة، بأن الجلسات باتت أشبه بالمسرحية وسط تشبّث كل فريق بموقفه، ما يجعل كل الجلسات متشابهة ما لم يحصل خرق في المشهد المكرّر، يؤدّي الى كسر الحلقة المفرغة والتوجّه الى عملية انتخاب جدّية تنتج رئيساً.

لكن هل هذه هي الأسباب الحقيقية الكامنة وراء دعوة بري الى الحوار أم ثمة حيثيات أخرى دفعت الرجل الذي يملك مفاتيح البرلمان، الممر الشرعي الوحيد نحو إنجاز الاستحقاق الرئاسي، الى الكشف عن نيّته، من دون أن يترجمها الى واقع بعد، علماً بأن بري المتحفظ عن أي كلام في هذا الموضوع، لم يفصح بعد عمّا إن كانت الدعوة بمبادرة خاصة منه أم هي نتاج تفاهم محلي وخارجي على هذا المخرج للملف الرئاسي.

معروف عن الرئيس بري أنه لا يضيّع وقته على هدف واحد، بل يؤثر ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد. وبناءً على ذلك، فإن الدعوة الى طاولة حوار لا تقتصر أهدافها على الملف الرئاسي، وإن كان هو العنوان الرئيسي وربما الأوحد لجدول أعمالها.

بيّنت الجلسات الانتخابية الأربع حجم الارتباك الذي يسود القوى السياسية المتحكّمة بالكتل البرلمانية داخل المجلس. لا فريق أو حتى تحالف متماسك قادر على تأمين الأكثرية الكفيلة بإيصال مرشحها الى بعبدا، بل أقليات قادرة على التعطيل. لكن الأقليات لا تنتج انتخاباً، بل تعبّد الطريق أمام فراغ طويل الأمد، ما لم يدخل على خط الاستحقاق ما يكشف الأوراق المستورة، ويمهّد المخرج أمام الكتل الأسيرة لسقوفها للبحث في اسم الرئيس الذي يمكن أن يحظى بالصفة التوافقية المطلوبة، بعدما تأكد لكل فريق عجزه عن إيصال مرشحه المصنف تحت توصيف “تحدٍّ” أو “مواجهة”.

يدرك بري هنا أن اللعبة باتت لعبته، ما دامت الكرة في مرماه. فهو صاحب الدعوة الى الانتخاب، ومن هذا الموقع، بادر لكي يكون صاحب الدعوة الى الحوار، خصوصاً بعدما تبيّن أن رئيس الجمهورية، طيلة ولايته، المنقطع عن القوى السياسية، والمعزول في بعبدا بسبب خلافاته مع غالبيتها، عجز عن الاضطلاع بهذه المسؤولية، رغم أنها في صلب صلاحياته ودوره كـ”بيّ الكل” والمؤتمن على الدستور وتطبيقه، فاستحال عليه توجيه الدعوة، بحيث وُلدت الفكرة ميتة، ولم تتمكّن من شق طريقها نحو جمع الأضداد تحت قبة بعبدا.

هل ينجح بري حيث فشل عون؟ الجواب سيكون رهن أكثر من معطى أولها أن موقع بري وشبكة علاقاته تتيح له هامشاً أوسع من الحركة، كما أن صلاحياته كرئيس للسلطة التشريعية تؤهّله للقيام بمبادرة رئاسية تحت وطأة إخفاقات الكتل في التعامل بجدّية مع الاستحقاق.

لن يقدم رئيس المجلس على “دعسة” ناقصة ما لم تكن المعطيات التي يملكها تؤهّله للنجاح فيها. وهو لهذه الغاية، بدأ يستمزج جدّياً الآراء والمواقف قبل أن يخطو خطوته الأولى. سمع تجاوباً من رئيس تكتل “لبنان القوي” جبران باسيل، ولاقى ترحيباً من جانب “حزب الله” ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، فيما ينتظر رئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع الدعوة ليحدّد موقفه، انطلاقاً من اقتناعه بأن أي حوار إن كان يهدف الى انتخاب رئيس بالتوافق والتسوية فسيكون رئيساً لإدارة الأزمة، لا لحلها. والمرحلة اليوم تتطلب رئيساً قادراً على الحل.

على مقلب الكتل الأخرى، تكشف أوساط قريبة من رئيس المجلس أن الاتصالات بدأت جدّياً لاستمزاج رأيها. يأخذ بري في الاعتبار عاملين أساسيين، التوزيع الطائفي للكتل وحجم تمثيلها السياسي، وعلى هذين الأساسين ستُوجَّه الدعوات، بحيث يكون التمثيل على طاولة الحوار شاملاً. أما الطبق الرئيسي، فحتى الآن لا يزال الاستحقاق الرئاسي، والهدف إطلاق مبادرة حوارية بين القوى المتصارعة، عجزت قاعة ساحة النجمة عن تشكيل مساحة كافية لها في ظلّ استعراضات شعبوية وسقوف عالية من الصعب التراجع عنها، ما لم يتوافر مخرج يُنزل الجميع عن شجرتها.

لم يحدد بري بعد موعداً لدعوته، ولكن الأكيد أنها ستكون بعد انتهاء الولاية الرئاسية، وليس مستبعداً أن تكون قبل الجلسة المقبلة للانتخاب التي لم يحدّد أصلاً موعداً لها بعد، وليس في وارد ذلك في الأيام القليلة الفاصلة عن انتهاء ولاية عون، وذلك لإدراكه أن ظروف الانتخاب لم تنضج بعد.

إذن الدعوة جهزت وتنتظر استكمال المشاورات مع الكتل، ولكن هل تنتج رئيساً أم تكون مزيداً من إضاعة الوقت؟ الجواب ليس أكيداً، ولكن الأكيد أن الحوار في الوقت الضائع سيسهم من دون أدنى شك في ملء الفراغ على الساحة السياسية في ظل شعورين دستوريين، في الرئاسة والحكومة.

قد لا ينتج الحوار رئيساً، ولكنه سيعزز حتماً موقع ومكانة بري على المسرح السياسي، وهو الوحيد الذي يتمتع بشرعيته الكاملة، بما يتيح له الإمساك بخيوط اللعبة والتحكم بها بعد خروج عون من بعبدا وانسحاب زعيم السنة سعد الحريري وانكفاء زعيم الدروز وليد جنبلاط.

Leave A Reply