العلامة الخطيب: علينا جميعا أن نتوجه بالعمل الجاد لحل مشاكلنا بالحوار لإنقاذ بلدنا وشعبنا من النفق المظلم الذي ادخلتنا فيه السياسات الخاطئة

أحيت بلدة دير قانون رأس العين ذكرى أربعين إمام البلدة العلامة الشيخ حاتم اسماعيل باحتفال حاشد أقيم في حسينية البلدة حضره نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب ووكيل المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ بشير النجفي الشيخ علي بحسون ومفتي صور وجبل عامل القاضي الشيخ حسن عبدالله وممثل المطران ايلي حداد الأب بشارة كتورة ولفيف من العلماء والقضاة الشرعيين ومدراء الحوزات الدينية في لبنان وممثلون عن حركة أمل وحزب الله وحشد من الفعاليات والشخصيات الاجتماعية والتربوية ورؤساء مجالس بلدية واختيارية.

بعد تلاوة آيات من القرآن الكريم القى مسؤول حركة أمل في اقليم جبل عامل علي اسماعيل كلمة رثاء من وحي المناسبة

ثم ألقى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الخطيب كلمة جاء فيها :

قال سيدنا ومولانا امير المؤمنين الامام علي بن ابي طالب (ع) مخاطباً كميل بن زياد: (يا كميل العلم دين يدان به. به يكسب الإنسان الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، يا كميل هلك خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة،ها، إن ههنا لعلما جما (وأشار إلى صدره) لو أصبت له حملة ، بلى أصبت لقنا غير مأمون عليه، مستعملا آلة الدين للدنيا، ومستظهرا بنعم الله)

وأضاف :

ايها الاخوة الاعزاء، احببت ان ابدأ بكلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين (ع) هذا ، وانا اؤبن اخا عزيزا لنا وعالما منا بدأ حياته وانهاها على مقاعد مدرسة امير المؤمنين (ع) باب مدينة علم رسول الله (ص)، من بيت متواضع مادياً ولكنه غنيٌ بما يحمله من ولاء لرسول الله ولآل بيته الطاهرين(ع) حيث نشأ وتربى فكان النبتة التي زُرعت في هذه التربة الصالحة التي انبتت نباتاً حسناً واثمرت رغبةً وعشقاً لعلوم آل محمد (ص) فاندفع مشغوفاً ليستقر في مدينة قم مهد آل محمد(ص) يرشف من معين حوزتها ليروي ظمأه ويعود الى منبته بما استطاع ان يتزود به من علم ومعرفة مسترشداً بقول الله تعالى ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون )، لم يكن ليحصل عليه الا بتوفيق من الله تعالى وبعونه، بالصبر والجهد والمعاناة والتحمل للغربة والقلة والظروف الصعبة التي حكمت هذه المرحلة من الزمن حيث كانت بداية التحول في ايران الذي بدأ مع انتصار الثورة الاسلامية المباركة، فعايش ما بعدها من احداث وما ترتب عليها من اعباء داخلية كان للحوزة العلمية وطلابها منها نصيبها الكبير خصوصاً الطلاب اللبنانيين الذين تركوا وراءهم بلدهم يتخبط في حرب اهلية ضارية وعدوان اسرائيلي غاشم، فزادهم هماً الى هم ولكن كل ذلك لم يفت في عضدهم وابلوا بلاءً حسناً في المثابرة على تحصيل العلم ليتمكنوا من التزود بما امكن من العلوم اللازمة ليعودوا الى بلادهم واهلهم ليقوموا بواجبهم في تأدية المطلوب منهم في التبليغ والارشاد والتوجيه بالكلمة والتدريس والخطابة والوعظ، ليكملوا مسيرة من سبقهم من العلماء الى جانب اخوانهم من العاملين على الساحة اللبنانية في هذا الحقل، موزعين جهدهم على سائر الجبهات الفكرية والادبية والعلمية والجهادية فابلوا بلاءً حسناً واعطوا نموذجاً رائعاً في التضحية والعطاء في هذه المرحلة الحساسة والخطيرة من تاريخ التشيع في لبنان، في حفظ العقيدة وعلوم واخلاق ائمة اهل البيت (ع)، في هذه البيئة ذات التفرد في الخصوصية الجغرافية والثقافية والسياسية والحرية الفكرية والاعلامية المفتوحة الابواب على العالم وللعالم، مما عقَّد ظروف العمل على العاملين في هذا الحقل وجعل النجاح معه امراً شبه مستحيل، وكان لدخول العامل الاسرائيلي والاحتلال للارض وما احدثه من دمار لم تقتصر اثاره على الامور المادية فقط وانما على الصعيد الاخلاقي والمعنوي والتمزيق للجغرافيا السكانية والاسرية والعائلية نتيجة التشتت الذي احدثه الاحتلال للمناطق التي وقعت ضحيته، اوجد خللا كبيرا في ساحة النشاط للعاملين وعقبات كبرى في امكانية التحرك والتواصل مع الارض وعرضهم لاخطار الملاحقة والتضييق والاعتقال.

وتابع: كان بظن الاعداء ان ما زرعه العاملون من العلماء والقادة منهم وخصوصاً الشهيد الاول والثاني وغيرهم كالامام السيد عبد الحسين شرف الدين والامام السيد محسن الامين والامام السيد موسى الصدر والامام الشيخ محمد مهدي شمس الدين والامام الشيخ عبد الامير قبلان وغيرهم من العلماء المعاصرين، سينتهي ويؤول للزوال، ولكن الاخلاص لله تعالى والتصميم على القيام بالمهمة والواجب مهما بلغت الصعوبات فتح من تلك التحولات ابوابا جديدة للعمل وساحة جديدة للعطاء ادت الى تحقيق انجازات تاريخية لم تكن في حسبان احد بفضل هذا الانسجام الرائع بين الجسم الديني العلمائي وبين المؤمنين والمثقفين ومن كل الطبقات الاجتماعية من اهلنا في القرى والتكايا ومن كل بقاعنا اللبنانية التي وقفت كتفاً الى كتف يسند بعضها بعضاً، فكان منهم الشهداء والجرحى واصحاب الاقلام الحرة والواعية،

مضيفا : وحيث اننا بصدد تأبين عالم من هؤلاء وهو الاخ والصديق زميل الدراسة العلامة والاستاذ والمؤلف الشيخ حاتم اسماعيل الذي لم يكن جليس داره ولم يقعده المرض عن مواصلة العطاء واستزادة المعرفة والذي نتألم اليوم لذكراه والذي اخترمه الموت من بيننا، اذكر الاخ العزيز والاستاذ والصديق السيد عباس الموسوي والشيخ راغب حرب وغيرهم، (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ).

وقال : ايها الاخوة الاعزاء، لقد كانت هذه ميزة مدرسة ائمة اهل البيت(ع) وتبعاً لهم ميزة علماء جبل عامل العلم الى جانب العمل والمقاومة إباءً للضيم ودفاعاً عن الدين والارض والعرض والكرامة، وهكذا كانت اهمية هذه المدرسة على مر التاريخ في التحدي وبناء الحوزات التي ملأت ارض بقاعنا اللبنانية ، وانطلق منها العلماء الى العراق وايران فكان المحقق الكركي والحر العاملي والشيخ البهائي وغيرهم (قده).

لقد عرف الاعداء خطورة هذه المدرسة، ولذلك تعرضت لمحاولات التشويه والتعطيل والنفي والتشريد، ولكنها كانت كلما اشتدت الاخطار كلما تجذرت في العقول والقلوب والارض، فبها حُفظت الديار والاعراض والكرامات، ولطالما تعرضت هذه المدرسة ورجالاتها عبر التاريخ الى هجمة ضارية وشرسة، ولذلك يحاول المتطاولون والمعادون الى الفصل بين الامة وعلمائها عبر التركيز على بعض المتلبسين بلباس علمائها ممن سلك طريق الانحراف او ممن شذّ عن الصراط، واُغفل ذكر الافذاذ او عُمِل على تشويه دورهم، وهي حرب خبيثة يقوم بها اعداء هذه الامة حتى يستطيعوا قطعها عن تاريخها حيث يشكل العلماء رأس الحربة في المواجهة لاغفالها وجرها الى حيث يريدون ، ولذلك كان التواصل معها بكل قطاعاتها بمثابة الحياة متسلحين بالعلم والمعرفة التي تتناسب مع العصر، والانقطاع عنها بمثابة الموت الذي يأمله الاعداء، ولكنها مسيرة مستمرة ستبقى الحوزات العلمية ترفدها بالكفاءات التي تبقي عليها غير منكفئةٍ ولا متوانية عن القيام بدورها التاريخي الذي حفظ هذا البنيان متيناً وصلباً امام التحديات الخطيرة التاريخية الهائلة الفكرية والثقافية البنيوية والاجتماعية التي سعت لاخراجها من الساحة وفصلها عن ميدان جهادها وبيئتها وجمهورها المؤمن الملتصق بها دائماً والوفي لقضاياه المبدئية حيث افشلا معاً على الدوام هذا المسعى، ليبقى هذا الجبل الاشم بعلمائه ومثقفيه وجمهوره ليس الصخرة الصلدة التي تتكسر على اطرافها هذه المحاولات فقط، بل المنطلق لكل تحول تاريخي في المنطقة، وهو ما يتكرر اليوم في صناعة التاريخ من جديد بفكر القادة واهل الرأي والمعرفة والتضحيات الكبرى التي امتزجت فيها دماء المقاومين من كل الطبقات علماء ومثقفين وجماهير، شكل الامام السيد موسى الصدر الطليعة فيها لانه عُجن من طينتها مدركاً لما تزخر به من طاقات وقدرة على الابداع في كل المجالات، فجذورها ممتدة في العميق من التاريخ الناصع الحضاري الذي كانت ابداعاته المتعددة الوجوه تسطع عند كل منعطف تاريخي ومصيري، ولم تكن الانتصارات _ التي سجلها بفخر في تاريخه المعاصر في مواجهة اعتى قوى العدوان مدعوما من كل جهات الارض مسجلاً حدثاً تاريخيا صادماً في تاريخ العرب والمسلمين الحديث، بعد سلسلة من الهزائم والتراجع امام الزحف المغولي الغربي الجديد_ انجازاً فريداً في الدفاع عن ارضه تعبيراً عما يختلجه من شعور بالعزة والكرامة كما لم تكن نصرته لقضايا امته في الوقت الراهن في الوقوف الى جانب القضية الفلسطينية وقضية القدس بالامر الطارئ عليه، فقد كان لجبل عامل نصيب في استرجاع القدس من ايدي الصليبين، وان اغفل التاريخ ذكر ذلك او ابرازه بشكل واضح ، ولولا ان الامر كذلك لما كنا نشهد هذه الحرب الشاملة التي يجند لها العدو الصهيوني ومن يقف وراءه كل الامكانيات العسكرية والامنية وأخطرها الحصار الاقتصادي والاعلامي في محاولة خائبة لضرب عوامل القوة التي يشكلها هذا الوجود، واهمها هذا التلاحم البنيوي الصلب والراسخ بين المقاومة وبيئتها في محاولة اختراقها وايجاد انفصام بين مكوناتها حتى يسهل عليه الاجهاز عليها بعد ان عجز عن بلوغ هذا الهدف عبر حروبه العسكرية.

وما زلنا ايها الاخوة اليوم في خضم هذه المعركة التي تدار بخبث ودهاء بغية قلب الموازين عبر الانتخابات النيابية بسلاح الاقتصاد وتحميل المقاومة بشقيها العسكري والسياسي مسؤولية المعاناة التي يعيشها شعبنا واهلنا الكرام الذين يدركون جيدا ان ما يُدّعى من انها حرب على الفساد ليست الا كذبة مفضوحة، وهي ليست الا شكلا جديدا لحرب تخاض من اجل كسر شوكتكم وليست من اجلكم على الاطلاق، لذا فهي حرب وجود لصالح الكيان الصهيوني وليست لصالح بناء الوطن، وان المخلصين ممن يرفعون شعارات الاصلاح يجب ان يعلموا ان الاصلاح لا يكون بضرب الثنائي الوطني الذي هو الركيزة الاساسية لاي عملية اصلاحية جادة، ولذلك حيث ان الانتخابات وهي حق اللبنانيين في التعبير عن رايهم، فان اول الاهداف التي يجب العمل لتحقيقها هو المشاركة الكثيفة فيها دفاعا عن ثوابتنا وعوامل قوتنا وحيثية وجودنا، وان نعبّر ايضاً بذلك عن وحدة الموقف لدينا، وبهذا الى جانب وحدة اللبنانيين المطالبين في هذا الظرف الخطير بالتعاون والتكاتف نحبط المؤامرة ونفشل اهداف الحصار الذي سينتهي كما انتهى الاحتلال عن معظم ارضنا وننجز مرة اخرى معاً نصرا جديداً في هذه الحرب المفروضة باذن الله.

لقد كانت المقاومة التي اسسها الامام موسى الصدر لكل لبنان ودفاعاً عن كل اللبنانيين من اجل بناء وطن كريم وعزيز غير طائفية ولا مذهبية، وهي تمثل رصيداً قوياً لحفظ سيادته وثرواته وتحرير ارضه، و التفريط بها خدمة لاهداف العدو الاسرائيلي المتربص على حدودنا و خسارة وطنية كبرى لا يمكن تعويضها، وعلينا جميعاً ان نتوجه بالعمل الجاد لحل مشاكلنا الداخلية بالحوار والتفاهم لانقاذ بلدنا وشعبنا من النفق المظلم الذي ادخلتنا فيه السياسات الخاطئة على كل صعيد.

وختم الخطيب متوجها من اسرة الفقيد الراحل العلامة الشيخ حاتم اسماعيل وعائلته الكريمة والحوزة العلمية بأحر التعازي حيث تبقى كلمات المواساة قاصرة عن التعبير عن حجم الخسارة التي مثلها غياب هذا العالم الجليل مصداقاً للحديث الشريف ( اذا مات العالم ثُلم في الاسلام ثلمة لا يسدها شيء ).

انا لله وانا اليه راجعون، وسأل الله تعالى ان يتغمده بواسع رحمته، ويرزقه شفاعة رسول الله واله الطاهرين .

واختتم الاحتفال بالسيرة الحسينية العطرة تلاها السيد حسين حجازي.

Leave A Reply