التأليف… الفرصة الأخيرة قبل الإنفجار

عبدالله قمح – ليبانون ديبايت

يتنامى انطباع لدى كثيرين في الداخل، أن ما دفع أقطاباً سياسيين على وزن “حزب الله” والرئيس نبيه برّي ووليد جنبلاط، للتحرّك حكومياً بأسلوب لا يخفي وجود نوايا “إنتحارية” لديهم في الدفع لإنجاز التأليف “مهما كلّف الأمر”، ينطوي على إحساسهم بمخاطر جسيمة داهمة، ذلك أن اللعب على حافة الهاوية غدى في الشهور الأخيرة خطيراً، إلى درجة أن يتحوّل الإشتباك السياسي إلى الشارع، وما أدراكَ ما الشارع.

لم يعد سرّاً أن جهان أمنية محلية وضعت في متناول المعنيين منذ قرابة الشهر، تقارير “مرعبة” ليس فقط حول ارتفاع نسبة الجريمة، عطفاً على حالات العوز المستجدّة كنتيجة طبيعية للتلاعب “المقصود” بوضعية الإقتصاد الهشّة أصلاً، بل في ارتفاع درجة السخونة السياسية لدى الأقطاب ونزولاً عند صف مناصريهم، وما تمثله تلك الحالة من انعكاسات شعبية، والتي يمكن أن تنزلق سريعاً إلى مواجهة خطيرة في حال حصول تطوّر غير محسوب، كحادثة اعتراض مسار النازحين السوريين في محيط نهر الكلب. فصحيح أنه قد تم احتواؤها بفعل التحرّك السريع من قبل الجيش، لكن الصحيح أيضاً أنها أدّت إلى توليد “شحنة سلبية”، سيما بعدما قُرأت من جانب جهات سياسية أساسية بمثابة “ميني بروفا” لتحرّك قابل للحدوث عند نضوج الأجواء والفرص، خاصة مع ظهور طبائع وخصائص تكشف عن طبيعة الإعدادات اللوجستية الدقيقة التي سبقت لحظة وقوع الحادثة بساعات، وتمتّعها ببيئة حاضنة، سياسياً وشعبياً.

هذه المشهدية، إضافة إلى حالات أخرى لا تقل خطورة ودقّة، دفعت “الثلاثي” المذكور أعلاه إلى محاولة “لملمة فتات” الجمهورية قبل أن يقع المحظور، سيّما بعد ملاحظته أن “التيار الوطني الحر”، ينبري “ولو مناوراً” باتجاه تبنّي طروحات سياسية من النوع الساخن، كالتلويح باستقالة نوابه من البرلمان، والتوجّه الفوري نحو تأييد إجراء انتخابات نيابية مبكرة رداً على المماطلة في التأليف، وهو ما يمثل عملياً انزلاقاً “غير محسوب” باتجاه “مكمن” كانت قد أعدّته “القوات اللبنانية” منذ مدة، وسعت إلى جرّ “أي طرف” نحوه، وكان يمكن ل”التيار الوطني” أن يقع فيه، إنطلاقاً من حسابات تختلف بطبيعة الحال عن حسابات معراب لكنها في الواقع تصب في الهدف نفسه، لولا الإحاطة التي وضعت ميرنا الشالوحي في صورتها.

وأبعد من ذلك، أسفرت حالة التلاعب السياسي إلى ظهور “نتوء سياسي صخري” على خط بكركي ـ بيت الوسط. فالوعود التي أسداها الحريري إلى البطريرك بشارة الراعي، والتي تمحورت حول شروعه بإعداد تشكيلة حكومية مختلفة تمهيداً لرفعها إلى قصر بعبدا، سرعان ما انسحب منها غداة “فراره السياسي” إلى الإمارات العربية المتحدة، فأرخت بثقلها على بكركي، وقد نشأ على ضفتها شعور سياسي من أن الحريري “يتلاعب بنا”، وهو ما دفع بالراعي إلى ترشيد خطابه وإخضاع الحريري إلى “فحص وبائي” على النحو الذي شهدناه في عظة الأحد.

عملياً، مثّل تلويح “التيّار” بالاستقالة، بالنسبة إلى “حزب الله “على وجه الخصوص، حالة قد تدفع بالجمهورية إلى سلوك طريق “جهنّم” بكل ما للكلمة من معنى. فعداك عمّا ستحمله الخطوة من نزاع يحمل طابعاً ميثاقياً بين أركان الحكم، يتجاوز بخطورته ما حدث أواخر العام 2006 في أعقاب استقالة الوزراء الشيعة من حكومة فؤاد السنيورة، إنما قد ينسحب عنه أزمة سياسية أكبر واضخم من تلك التي نعيشها الآن، وهنا مكمن الخطورة. فرئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب، والذي يفعّل منذ مدة خاصّية “ترشيد التصريف” إلى حدوده الدنيا، سيُمانع الخوض في أي مسار ذات طابع الدعوة لانتخابات نيابية مبكرة أو دعوة الهيئات الناخبة، للذريعة نفسها التي برّر فيها رفض تعيين قضاة “بدلاً عن شواغر” في المجلس القضاء الأعلى اقترحتهم وزيرة العدل مؤخراً: عدم جواز تبني حكومته لأي موضوع يجدر أن يكون من صلاحية حكومة مكتملة المواصفات الدستورية.

ويتردّد أن تلويح “التيار الوطني”، والذي قيل أنه “مجرّد مناورة” لتحسين الموقع والظروف السياسية، فقد تبين للضاحية، بعد ملامستها لمعلومات دقيقة، بأنه ليس مجرد مناورة بل خيار وُضع على طاولة البحث كمعبر للخروج من دوّامة الجمود”. وعلى أثره تحرّكت الضاحية باتجاه ميرنا الشالوحي لوضعها في صورة العواقب الناتجة عن أي خطوة مماثلة. وقد خلصت قراءة الضاحية إلى اعتبار التلويح بحلّ المجلس النيابي خطيراً، وقد يهدّد السلم الأهلي، وهذا ليس نابعاً من منطق تعميم الخوف بقدر ما ينطلق من دراسة الأحوال على الأرض.

وبنتيجته، خلص إلى الإتفاق على سحب “تهديد الإستقالة” من التداول وجعله كأنه لم يكن، مقابل “تزخيم” الحزب لحراكه الحكومي. وقد عبّر عن تلك الأجواء السيد حسن نصرالله، من خلال دور الدفع الذي أدّاه، تقابله إنسيابية في التعامل لدى “التيار”، ما مكّن الرئيس نبيه بري، إلى جانب ظروف أخرى إيجابية توافرت لديه، للخوض في محاولته الحالية القائمة على تسويق مبادرة النائب السابق وليد جنبلاط، والتي أعلنها من قصر بعبدا قبل مدة.

لكن المحاولات الجارية حالياً، كما سبق وقلنا، ليست مفتوحة بل محكومة بسقف زمني محدّد. فالرئيس نبيه بري، الذي يتردّد أنه تواصل مع الحريري الموجود في الخارج وألزمه العودة إلى البلاد في موعد أقصاه الأسبوع المقبل، يتولّى، وفي دفع جدي بالتنسيق مع بكركي، إنجاز سلسلة تفاهمات تؤمّن صعود الحريري إلى قصر بعبدا وإنجاز مهمة التأليف دون عوائق تذكر. كذلك، فإن بري ينطلق من معاينة تطورات إقليمية تستوجب الإستفادة منها في توليد حكومـة، معطوفةً على تطورات داخلية لا يجب انكارها بل الإستفادة منها، وهو ما يعني “زَرك” رئيس الحكومة المكلّف في الزاوية، ودفعه نحو القبول بالوساطة “مهما بلغ الثمن”، وهذه الأجواء لا تُعد فقط أفضل فرصة توفرت للتأليف حتى الآن وبفضل تضافر جهود أكثر من طرف، إنما هي فرصة لاختبار نوايا الحريري الحقيقية، ودافع لإراحته سياسياً، سيما وأن الخطوات الجاري الاعداد لها، تحظى بدعم مصري علني عبّر عنه السفير ياسر علوي، خلال زيارته إلى الرئيس بري الأسبوع الماضي.

يبقى أن الأمور معلّقة على جهود الساعات الأخيرة. مع ذلك يبدو الحذر واجباً عملاً بالتجارب السابقة. وفي حال فشلت المساعي، يبدو أن الخيارات مفتوحة على شتّى الإحتمالات، وقد لا يجد احدٌ ما حرجاً في الإشارة إلى المعرقل وتسميته، وهذا يفتح الباب أمام تصعيد سياسي لن يكون الحريري بمنأى عنه.

Leave A Reply