المصري محمد أبو زيد يعتمد شعرية اللقطات السريعةمحمد السيد إسماعيل

محمد السيد إسماعيل

للناقد المصري محمد بدوي كتاب بعنوان “الجحيم الأرضي – قراءة في شعر صلاح عبد الصبور”، وإذا كان هذا الجحيم الأرضي معبراً عن شعرية عبد الصبور، فهو يعبر كذلك – وربما بصورة أكثر قسوة – عن عالم محمد أبو زيد في ديوانه “جحيم” (دار روافد – القاهرة)، وهو عنوان يأتي بصيغة التنكير للدلالة على العمومية، فهو ليس الجحيم الأخروي الذي نعرفه ونؤمن به، بل هو جحيم دنيوي يتواتر في صور متعددة منها ذلك الإحساس الفادح بضياع “الأيام” ونقصان العمر. يقول في “كم الساعة الآن”: “ولدت بساعة على معصمي/ يتطاير منها الزمن/ كأوراق رزنامة على الحائط/ في كل مكان أرحل منه/ تجدون خلفي العقارب/ في كل مكان أحط به/ أضع الأيام مع البيض في إناء السلق/ ثم أنام”.

ومن الواضح أن هذه السطور لا تكشف فحسب عن الزمن الذي يتطاير بآلية كأوراق رزنامة، بل تكشف أيضاً عن طبيعة الأمكنة التي يرحل منها، أو يحط بها. هذه الأمكنة المليئة بالعقارب، والتي تجعل الشاعر يتعامل مع الأيام بخفة حين يضعها “مع البيض في إناء السلق”، ثم ينام تاركاً العالم وراءه. هذه الخفة لا تعني عدم الاكتراث؛ بل تعني أعلى درجات الاغتراب بعد أن “تكسرت النصال على النصال”، كما كان يقول المتنبي، وهو إحساس لا يخص الشاعر وحده، إذ يشمل الناس جميعاً الذين “ملوا الحياة/ وفضلوا الذهاب إلى الأسواق السوداء/ وعيادات الإجهاض للتخلص من أيامهم الباقية”. وهي حالة تفضي إلى انقراض البشر وفراغ العالم، حيث “ستكون هناك صيدليات مغلقة/ حوانيت مهجورة على الطرق السريعة/ ذئاب تعوي/ ولا شيء آخر”. هناك تسليع للأيام ومقايضتها، ولنتأمل هوانها عند الشاعر: “بعود كبريت/ أو لحظة واحدة حقيقية”. إنه يتعامل بحرية مع الزمن وينتقل بخياله من عصر إلى آخر فيرى نفسه مرة في زمن الفراعنة، ومرة أخرى في السبعينيات.

قصيدة داليدا

يقول في قصيدة تحمل عنوان أغنية شهيرة “كلمة حلوة وكلمتين”: “لو عشت في السبعينيات/ لتزوجت داليدا/ أنتظرها في المطار/ ثم آخذها إلى غرفة نائية في شبرا/ غرفة وحيدة بلا أبواب ولا نوافذ/ ندخلها من السقف ثم أبنيه فوقنا/ وأقول لها: غني”. إن إحباط الشاعر من واقعه يدفعه إلى الحلم والرجوع إلى مراحل سابقة يحقق فيها رغباته، ويبدو التحليق وسيلة لتجاوز الواقع، كما يصبح الغناء وسيلة أخرى للغرض نفسه، فحين تغني داليدا تطير الغرفة مثل بالون، وتتحول الجدران لبلور كاشف.

thumbnail_جحيم- غلاف.jpg

غلاف الديوان (دار روافد)

وفي سطور أخرى يستعيد عقد الثمانينيات الذي “كان كل شيء فيه ممكناً”، كأن يصعد إلى السماء بالدراجة، لكنه الآن في منتصف العمر يتهدده الخطر… “ظهرك بدأ في الانحناء، وإذا نظرت من النافذة إلى الشارع الآن/ متسائلاً عن سبب الضجة المتواصلة ستقتلك رصاصة طائشة”. واللافت أن الشاعر يقوم بتفكيك العبارات الشائعة حين تتوالى عناوين القصائد على هذا النحو “ما يطلبه المستمعون”، وهو اسم برنامج إذاعي، و”مهرجان القراءة للجميع”، وهو مشروع نشر رسمي، يستهدف قاعدة واسعة من القراء، و”قصة الحضارة”، وهو عنوان كتاب شهير لديورانت، و”لأن الصديق قبل الطريق”، وهو مثل شعبي شهير. يقول في “قصة الحضارة”: “اسمي ويل ديورانت الثاني/ الأول كاذب بالمناسبة/ خنقته الحقيقة فمات/ فلا حضارة ولا يحزنون/ هناك دماء على النافذة منذ الصباح لن أمسحها”.

الشاعر هنا لا ينعى الواقع، ولا يتجاوزه، بل ينعى الحضارة، فالدماء تزحم المكان، والحروب لا تنتهي. ويلاحظ أن الحروب موضوع رئيس في الديوان، ففي “حروب لا نهائية” تبدو الحرب أشبه بالنداهة التي تخطف الإنسان من واقعه المرير، وتلهيه عن الغياب الذي تسببه حتى بدت كأنها “الداء والدواء”. يقول: “ذات يوم ستتعطل الحرب فنهرول إلى أماكننا القديمة/ نفتح الأبواب فنجد الجثث…/ رماد المصطافين على الشاطئ/ بقايا النادل في المقهى/ مقابر الأطفال في ملعب الكرة/ ربما ساعتها نعيد ماكينة الحرب إلى العمل/ حتى لا يفجعنا الغياب”.

مفارقة وتوقع

تحوي هذه السطور نوعاً من ضرب أفق التوقع، فالهرولة – بعد تعطل الحرب – إلى الأماكن القديمة توحي بعودة الحياة الطبيعية، لكننا نفاجأ بآثار الحرب المدمرة، وبهذا تتحقق المفارقة. وفي “حروب عائلية” نكون أمام صور غرائبية حين يقرر الشاعر أن رأسه فحسب هو الذي عاد من الحرب فوضعته العائلة في خزانة أمام طاولة الطعام كي يقرأوا له الفاتحة قبل كل وجبة. ومع مرور الوقت تستعمل العائلة تلك الجمجمة في أشياء أكثر نفعاً، كأن تضع امرأة في فمها قرطاً مسروقاً، أو أن تصبح لعبة في يد الأطفال. وهكذا، يتحول تلك الرأس من جلال الشهادة إلى أداة للأغراض اليومية من دون إحساس برهبة الموت، وهو ما يتوازى مع تفكيكه بعض المعارف الشائعة القديمة حين يرتبط بالغراب – الذي هو رمز للتشاؤم – وجدانياً، ويصفه بأنه “أسود كالملاك”، بل إنه يتوحد مع هذا الطائر في قصيدة “تعريف جديد للشعر” في امتلاكه القدرة على التحليق.

اقرأ المزيد

الشاعر المصري محمود نسيم يقاوم الاغتراب النفسي بالرحيل

أمجد ريان الشاعر التفعيلي يقع في هوى قصيدة النثر

يقول: “لكنك تطير/ وتعرف الطريق/ رفرف الغراب سعيداً/ أنا قصيدة إذن”. ولا شك أن هذا هو التعريف الذي يرتضيه الشاعر للشعر “أن يحلق، وأن يعرف الطريق”. ولا شك أن الشاعر مولع بغرائبية الصورة التي لاحظناها في “حروب عائلية”، وهو ما نجده في قوله: “حبيبتي زرافة تمد عنقها من البلكونة فتأخذ الخبز والبرتقال من البائع في الشارع/ ترفع رأسها لتنفخ في السحاب/ تزيحه قليلاً كي يظللني وأنا أسير في الحر”. أو أن يجعل السيارة هي التي تقوده إلى البيت، ما يعني تشيّؤ الإنسان الذي أصبح مثل آلة فقدت مفتاح إيقافها، وهي حالة تشعره بأنه سجين، وأنه يهرول منذ سبعة أعوام في زنزانة من دون أن يصل إلى نهايتها.

وأخيراً، يمكن الإشارة إلى توظيف شعرية اللقطات السريعة المتتابعة وكأننا أمام كاميرا تنتقل من مشهد إلى آخر، وذلك في قصيدة “أراك الآن” وتوضيفه ما يعرف بالإبيغراما، أو القصيدة الومضة في قوله: “هكذا الأيام: طرق على الباب ولا أحد في الخارج”.

المصدر: أندبندنت عربية

Leave A Reply