نسترجع أصداء ذلك الصَّوت الجبليّ ببحَّتِه الآسرة، ونعود إلى نصري شمس الدِّين وديعة التُّراث الحلو في تراب جون ووجدان لبنان وذاكرة أبنائه. يعتلي نصري شمس الدّين في غيابه قافية الميجنا وناصية الغناء، ويمتشق العود مرتقيًا بالصّدى سدرة المدى المترامي من الجبل العالي إلى الجنوب الغالي، ومن ظلال بعلبك وهياكلها إلى جمال بيروت وصخرتها إلى الشَّمال وأرزه الدَّهريّ العتيق.
يجتدي نصري إطلالته طربوشًا من احمرارٍ لا يبهت، ويرتدي سرواله، فيتسربَل الفَنُّ في جلبابه حضورًا بهيًّا فيه تجلِّيات الإبداع، وينبعث صوته الشَّجيًّ، فيرتسم لبنان في إهابه وطنًا للنّجوم والغيوم.
لقد كسر الأشقياء مزراب العين في غياب نصري؛ فعَطَشُ البلاد كربلائيّ، والوطن ما عاد حنونًا، و”الغربال” تهاوى من فتحاته الجميع؛ و”يبستِ الورود على شبابيكنا”. “الله شو بيتغيّر الإنسان”، و”شو بتتشوّه الأوطان” في غياب الفنّ الثّلاثيّ الأبعاد جمالا وخيرًا وحقًّا. فلا صوت للحُبّ يُسمَع، ولا بيت بالإيمان يجمع. الاستقلال سنديانةٌ جوفاء نخرها سوس الطّائفيّة، وأناخت على أغصانها غربان الفساد. أيّها الحارس الأمين: أين “ترحل النّجوم”؟ ولمن “تغنّي السّيوف”؟
“بكتبلك هالرّسالة” من بلادي الّتي لم تعد جميلة، لأقول لك: إنّ السَّاحة خلت من الأبطال الفرسان، وامتلأت بالتَّدليس والزَّيف والبهتان. فاحجب صوتك عنّا، ولا “تُحَوْرِب”. “أبو الزّلف” مات. وعاش أبو العنف وأبو الصَّلَف وأبو الجَلَف، وأصبحت حدود بلادي بابًا مفتوحًا على أربعة دروب: الخوف والحزن والضَّياع والجنون. انجُ بشالك وبسمتك الحلوة، وأخبر الطّير أنَّ الفِرقة صواب، والخبز والملح سراب وسفر برلك في إياب أمرَّ وأدهى.
نصري شمس الدّين، سلامٌ عليك من غمّازتي موجةٍ في بحر صور، وأرجوزتي راعٍ في جرود شبعا وجبل الشّيخ،حيث عبرتَ ذات حينٍ من بواكير العمر معلَّمًا قبل أن ترتاد الموسيقى والغناء من بلجيكا إلى مصر إلى العالم، وتختتم طوافَك الجميل في دمشق واقفًا على مسرحٍ خذلَك على خشبته دماغٌ نزفَ من ويلات الوطن، لتختار موتك واقفًا وصادحًا بالحُبّ. يا “مارقًا على طواحين” الزّمان: مياهنا مقطوعة وأفراحنا ممنوعة، وليلنا بلا قنديل، وحربُنا لها ألف فتيلٍ وفتيل، وسلمنا مستحيل. لأنّنا يا نصري يا حبيبي رعايا “الما ويلو الما يخاف ربّه”. يا “صيّاد يا بو العقال الخشب”: غاب من بعدك الفنّ والأدب. يا “ظريف الطُّول”: لقد حَكَمَنا في غيابك طويلو الأيدي والألسنة وقصيرو النَّظر. و”نسَّم هوا الغربي ونسي العربان دروبنا وما نلنا أمانينا”. “نيَّال قلبك” أنّك غبت. “منقول خلصنا” وهيهات أن…لقد هَرِمْنا وما جاء الخلاص.
سنضيء قناديل الحرّيّة مع طلّات الفجر، لعلّنا “نكمش القمر عجبالنا” حين نقرأ قولك الصّحيح درسًا في كتاب الحُبّ والوطن والإنسان.
“فراقك جبلٌ يا نصري”. “غريبٌ عن ديارك” أنا. لا تعلِ الأعتاب ولا تطل العتاب. “عالوعد وحياة عينك”، “عالوعد دخلك عالوعد”، ” على حكياتك”، “و ع تلالنا حكايات” سيبقى نورها في البال أغنيةً تضيء، فيطلّ “حبايب قلبنا ويطلّ الرَّبيع”. صوتك “طمَّنلي قلبي”. فاشهدي علينا يا بيوت، أنّ نصري شمس الدّين هو “شمّ الحبق” في أعمارنا، وحفنة من تراب الطّيب وسيرة من “سنين العزّ”، و”زهوة الماضي” و”ذكريات المجد” و”رسول الحُبّ”.
في زمانه، “زغار كنّا”، ولو كنّا كبارًا نعي ما نحن إليه مقبلون في غياب الحقّ والخير والجمال من أرضنا، لقلنا له: “خذنا معك عالشَّام”؛ فعلى بلادنا من بعدك السّلام. ماتت القرية؛ فماتت النّخوة والكرامة، وتداعت أبواب معصرة الزّيتون في جون، ويبس الزّعتر والطّيّون والزّيزفون. ما عاد الماء عذبًا ولا الهواء عليلا. فينا نبعٌ من الدّموع على العمر الذي مضى والزّمان الذي انقضى بعد أن أعمل فينا الحكّام في لبنان “بروتوكولات بني ملعون”؛ فاغتالوا النّهر وضفافه، والقلوب وأفراحها، والوجوه وضحكاتها.
يعيش يعيش نصري، الولد الشّقيّ في بيادر جون، والصَّيَّاد الكامن في عين حيرون متأهِّبًا ب”جفته” و”جربنديته” و”مطرته” ومعتمرًا “الطَّقية” متأهّبًا لممارسة هوايته الأثيرة. يعيش يعيش نصري الشَّاويش والحارس والبويجي وشيخ المشايخ والمختار ورئيس البلديّة وصقر “جبال الصّوّان”، والوزير والمستشار والمتصرّف والأمير والملك والحنجرة التي جاد بها الزّمان، فأطربت وأبهجت بأكثر من ألف أغنية، وكانت مع فيروز ووديع الصّافي والرَّحابنة لبناننا الذي لا يطيق أن ينحسر أو ينحصر في متاهات الطّوائف، ولا يضيق إذ تنفتح له الأمصار والأقطار من المحيط إلى الخليج، ومن مشارق الأرض إلى مغاربها.
مات نصري شمس الدّين على خشبة المسرح بعد أن استهلك قلبه وروحه وجسده كلمةً كلمة ولحنًا لحنًا وأغنيةً أغنية. مات حيث تفنّن بفرفطة العمر حبّةً حبّة، كي يفرح الآخرون. مات وهو يغنّي: “تركوني لحالي لحالي، غنّي الليالي بالليالي، خلّوني بالعالي العالي إرمي هالطَّربوش”. ورمى طربوشه، وعاد مُسَجًّى إلى جون التي أعطته زيتها وزيتونها في حياته، وحضنها الدَّافئ و”فَيَّاتِها” في إيابه الأخير إلى ترابها.
ختامًا، نعيد قول فيروز في رثائك: “كان بيلبقلك تعيش كتير بعد…كان بيلبق لصوتك يغنّي بعد…في شي بفنّي زاد لأنّك جيت، وفي شي نقص لأنّك رحت. كنت ربحي الكبير، وخسرتك يا نصري”.