“وطن اسمه فيروز” عن “مؤسسة الفكر العربي”: يجمع 37 عَلَماً ثقافيّاً من العالم العربي ولبنان

قلما نجد شخصا، شخصية، فنانا، عملا، وطنا، جمهورية، جمهورية صوت، جمهورية معنى، جمهرة من الناس، أو قل بطلا، أو أبطالا، بالسقف العالي للبطولة، قلما نجد أقله، واحدا من هؤلاء جميعا، يمنح بكل رضا وعفوية، وكالة عامة للأقلام، وكالة عامة للتصرف: كتابة ونقدا ومتابعة وتأريخا وشغفا وحبا، مثلما تفعل السيدة #فيروز مع الناس، كل الناس، بلا استثناء. لا لشيء إلا لأن الاستثناء هنا مفقود، غير موجود أصلا. إلا لأن الجميع، من العشاق، ولا أحد يند عن هذا السرب الفيروزي من الناس.

لم أجد كتابا يعبر عن الشغف والحب، لم أجد مصنفا، يدوّن وكالة الأقلام كلها، عن الصوت المتدثر بنفسه، عن الصوت المتدثر بشال الحرير، بعباءة شخصية فريدة، عبقرية فريدة، مثلما وجدت في كتاب “وطن اسمه فيروز”، الصادر عن “أفق. #مؤسسة الفكر العربي“، إشراف الدكتور هنري العويط، وهيئة التحرير المؤلفة من الباحثين الأديب أحمد فرحات والدكتورة رفيف رضا صيداوي.

تمنح السيدة فيروز حقا، كما يتبدى لي من خلال هذا الكتاب/ السفر، وكالة عامة لجميع الأقلام بلا استثناء: أن تعالوا إلي. كأنها تقول بلسان الشاعر وليد سيف: كل داخل سيأتي إلي، وكل خارج أيضا. لا يحتاج هذا الحشد أن يأخذ وكالة منها أصلا، لأنه يشعر حين تغني أن الصوت موجه إليه، وأن الشعب بالتالي موجها، موج صوتها. وهل يحتاج الموج، إلى وكالة من بحر؟!

الإصغاء والهيام، وأنت “ترى الناس سكارى، وما هم بسكارى”، هذا هو الهوى. هذا هو الحق العام، الذي يمنح دنيا الناس، أن يكونوا جميعا موكلين بالجمال، معنيين به، يتبعونه حيثما هو. يدورون كثيرا، يطبقون الأرض، الآفاق جميعا. يتفرقون، يشردون، يدبون في الأنحاء، في الشرود، ولا يجتمعون إلا على بابها؛ باب السيدة فيروز، أيقونة الغناء العربي.

الإعجاز الفيروزي إذاً، يمنح الأقلام جميعا، حقا واحدا للجميع، حقا مقدسا للجميع: الرهبة والخشوع والدخول مع شمعة، في طقس صلاة. هذا هو الإعجاز الفيروزي، الذي لا يضارعه إعجاز فني على الأرض. حتى صار وطنا لهم جميعا. صار وطنا اسمه فيروز.

تلبي جميع الأقلام شغفها في هذا الكتاب، إذ تلبي، مانحة نفسها بنفسها، الوكالة العامة، تماما، مثل أجنحة الطير، حين تلبي دعوة السماء في التحليق. وهل من طير بعد ذلك لا تراه يحلق، لا تراه يطير، إذا ما صادف الفضاء الأخيلا؟!

سفرٌ هو هذا الكتاب: وطن اسمه فيروز. بل هو الكتاب السفر. بل هو الفسر حقا: لم لا. ضم حزمة من الأسماء، أعتقها إذ أعتقها من النار، حين شرعت في التحليق، في سماء فيروز. أعتقها إذ أعتقها من النار، حين أشرعت مراكبها، لا لشيء، إلا لأنها تريد أن تطفئ النار في قلبها، تطفئ ذياك الجمر، ذياك الأوار.

لا تحصى المراكب التي جنحت على موج صوتها، ذات غناء فيروزي، مع الصباح، مع المساء، فوق المسارح، في دور الأوبرا، وبين وديان لبنان: كانت تحرك سعف الأرز فقط. تخلع الصوت الرخيم عليه، موجة من أثير. لا تحصى تلك الأقلام التي شرعت، حين أشرعت ألويتها، تواكب “هالة والملك”، تحبر السطور الجفلى، مثل صف من الخيل، مثل بيارق، شالات، ألوية من خيال. تستعير من القلوب محابرها الحمراء والخضراء، وتغمس قطرة حبر على سطر، لها رعشة في الفؤاد.

فكتاب “وطن أسمه فيروز”، إنما يحمل إذ يحمل إلينا، طاقة من الأسماء. تراها مثل أسماء الخيول. بل هي أسماء خيل فيروز. تلبي دعوة الماء العذب، بعد صحارى ليل طويل. بعد صحارى النهار.

“وطن اسمه فيروز”، سفر ضخم شارك فيه: عبد الإله بلقزيز، نبيه البرجي، هنري زغيب، رفيف رضا صيداوي، سعد البازعي، مؤيد الشيباني، نادية هناوي، زياد جمال حداد، سعدالله آغا القلعة، عصام الجودر، نادر سراج، نبيل سليمان، فيصل دراج، جوني منصور، فيكتور سحاب، محمد فرحات، الأب بديع الحاج، حنان قصاب حسن، غسان الشهابي، سليمان الحقبوي، حسن مدن، كريم جمال، عمرو ماهر، محب جميل، سعيد هادف، أحمد فرحات، إلهام نصر تابت، شوقي عبد الأمير، محمد المعزوز، عقل العويط، هاشم قاسم، طلال معلا، حسين قبيسي، سليمان بختي، عبدالله ابراهيم، عمار مروة، فادي العبدالله. دخلوا جميعا في السباق. يريدون الغلوة. يريدون قصب السباق.

كتب سليمان بختي يقول، تحت عنوان: فيروز… من حديث البدايات: “كانت نهاد وديع حداد( فيروز)، تعيش في بيت متواضع في محلة زقاق البلاط في بيروت. ولا تزال معالم هذا البيت قائمة في انتظار العمل لتحويله إلى متحف تكريما لها، وتخليدا لذكراها… استهواها الغناء منذ طفولتها… كان والدها منضد الأحرف في جريدة “لوجور”. غنت لأول مرة في عيد الشجرة. طلب منها الأخوان فليفل متابعة الطريق: “جربي إقناع والدك يا أبنتي… وأنا أتعهدك حتى النهاية”.

هكذا ولدت فيروز من رحم الشعب، مثل كل العمالقة العظام. مثل كل ربات الأولمب وجبل الأرز، حتى صار لها الصوت الذي إذا غنى، اتخذ بعده شكل الماء. فـ”هو الصوت. هو الصوت. هو الصوت. لكني أراه بعيني. وإني أراه إذا أغمضت. وإني أراه إذا لمست. وتنفست. وشممت. واستطعمت. وشقيت. واغتبطت. وامتلأت. وفرغت. وجاهدت. واجتهدت. وأحببت. وحلمت. وإني أراه في صعودي ونزولي. في يساري ويميني. في شرقي وفي غربي. في تيهي وانتباهي. فكيف لا أكون أراه؟ لذا أسأل: أهو أنايَ من فرط ما هو أنا. أم صوت هو. أم كائن. أم مرآة. أم رؤيا؟ امرأة هو، أم جسد، أم حلم، أم كيان فلسفي، لا يخضع لمنطق العقل بل فقط لمنطق السؤال؟”.

شهادات كثيرة، حملتها هذه الخيول المطهمة التي أسرجت في السباق. وبصلة حميمة من ذلك، كتب الدكتور عبد الإله بلقزيز، يقول: “كيمياء سحرية هي تلك الكيمياء، التي تكون منها المشروع الرحباني- الفيروزي: الكيمياء التي جمعت بين أغنى لغة موسيقية (رحبانية) وأعمق وأدفأ صوت وأرفع أداء (فيروزيين)، فتكون من مزيجهما ذلك المركب المذهل، والعصي على المضارعة والمضاهاة في السياق الفني العربي، منذ خمسينات القرن الماضي.”

أما شهادة الكاتب أحمد فرحات، ففيها ندى المعنى. كتب يقول:

“صوت فيروز يؤالف بمراس عفوي بين مختلف الطبقات الصوتية المؤلفة له، والدافعة بالتالي لإتمام شروط الغناء الناجح… هو الصوت المتوسط، والألتو، وهو الصوت الداخلي العميق أو المكثف. وفيروز قادرة على التنقل بين هذه الطبقات الصوتية بيسر وسلاسة، صعودا وهدوءا وعبر مديات زمنية طويلة تعجز عنها حتى غالب الأصوات الغنائية الطليعية الأخرى في العالم.”

أما محمد فرحات أيضا، فينبهنا إلى أمر مهم، في ما كتب. يقول: “فيروز قوة لبنان الناعمة. لكنها قوة الفن، حين يجهد ليصبح قابلا للإستمرار وديمومة الحضور. والفن الفيروزي- الرحباني، هو في الأساس تعبير عن وجدان الإنتماء الوطني واحترام التاريخ والسلام بين الجماعات المتنوعة. كما أنه نص صوتي موسيقي متدفق من بيئة الأدب والثقافة المنفتحة على الإنسانية كلها. هو حب الأرض والشجر والنبات المتواضع، يتجلى في لغة عامية مبدعة ومشذبة وراقية. وفي لغة عربية فصحى محررة من التعقيد والتكرار الممل حتى الثرثرة.”

على أن الدكتورة رفيف رضا صيداوي، كانت ترافق الصوت الفيروزي. ذهبت إلى ينبوعه المسحور، عادت ممتلئة به. قالت: “لكأني وصوت فيروز أحيا في اللازمن، إلى ما قبل الوجود، إلى ما قبل الوعي…. يحملني صوتها إلى البعيد البعيد. أبعد من السماء والأرض، إلى صور غير مكتملة وغير واضحة من طفولتي المبكرة التي استوطنت قلبي ووجداني قبل أن يدركها عقلي.”

شهادات كثيرة، تشهد للسيدة فيروز في هذا السباق/ الكتاب. وأنت لا تحتاج في هذا السياق أقول، إلا إلى كثير من التأمل والتعمق والإنسياب في الحنين إلى وطن إسمه فيروز، يعيد إلينا وطنا إسمه لبنان. فما أرادت فيروز إلا أن تحمل لبنان على أجنحتها الوردية، تضرب فوقه، قوسها القزحي، ليحلق عاليا في سماء العالم كله.

هذا الكتاب، بأقلام موكلة بها، بجمال صوتها، بإبداعها، تجعلنا نغتبط للمرة الأولى بوكالة الأقلام عن رائدة ما خذلت أهلها. فكيف لها أن تخذلها. أن يخذلها أهلوها. على الرغم من أننا ننتظر من الأقلام الأخرى، لا من يشهد لها، وإنما من يرافق مسيرتها تحليلا وتدقيقا وتحبيرا، حتى نصيب منهم، من يجيب عن سؤال الشاعر والأديب عبد الغني طليس، في جريدة “الأخبار” 22/2/2024: “-ماذا أضاف “وطن اسمه فيروز” إلى معرفتنا؟. ويرد على أسئلته المشروعة التي أوجزها في هاتيك النقاط العشر: مثل الحديث عن طبيعة الصوت، وعن نوع الأغاني الفلوكلورية والأغاني الشعبية، وسائر أغانيها وعن دراسة موسيقى الحوارات الغنائية، وكذلك عن الإضاءة على عمل الأخوين رحباني وعما سماه قضية العمر- الطفولة وعن القصص والحكايات التي كانت تبنى عليها المسرحيات، وعن الخروج الكامل من فكرة، أن الأخوين رحباني صنعا وطنا ساكنا في أقصى التمني، ولا يشبه وطنهما. وكذلك عن إفراد مساحة خاصة لأعمال فيروز مع زياد رحباني، وتقدير (الجمالية الزيادية) وخصوصيتها ومفاتنها الذاتية، بحيث لا تختلط مع غيرها.

وإذ أطلت في توضيح هذة النقاط/ المتطلبات، للأستاذ عبد الغني طليس، فلعلمي بضلوعه، في فن فيروز بخاصة والرحابنة بعامة. ولكي أجيب عن أسئلته بالتالي: بأن هذا النوع النقدي أو القراءوي، الذي يطلبه، إنما هو من نوع الدراسات، لا من النوع الذي يعرف بالشهادات.

كتاب “وطن اسمه فيروز”، لا يتنطح لدراسة الظاهرة الفيروزية ولا يصبو الى ذلك، أكثر مما يشهد لها. لأني أرى أن الكتاب حمل في تضاعيفه البحوث والآراء القيمة، وأصدرها في صيغة شهادة، لا في صيغة دراسة. ولا شك أن الدراسة الأكاديمية، لم تكن كما رأيت، مطلب كتاب “وطن اسمه فيروز”، لأن ذلك إنما يتحصل فقط، في الأكاديميات المتخصصة. فعذرا إن لم أكن قد أصبت. ولكني اجتهدت.

النهار

Leave A Reply