قصة الأب اللبناني الذي رهن سيارته مقابل جثمان طفله … بالتفاصيل

هزّت صورة حسين البعريني، وهو يحمل جثمان ابنه الرضيع بين ذراعيه، مغادراً المستشفى سيراً على الأقدام لدفنه، الرأي العام في لبنان، كونه اضطر لرهن سيارته للمستشفى، لعدم قدرته على تسديد الفاتورة الاستشفائية.

يوم الثلاثاء الماضي، تلقى حسين اتصالاَ من مستشفى خلف الحبتور، في عكار شمال لبنان، اطلع خلاله أن ابنه فارق الحياة “بعد 24 يوماً أمضاها في الإنعاش، حيث عانى من مشاكل صحية منذ ولادته” بحسب ما يقوله الوالد المفجوع، شارحاً “سارعت إلى هناك، فطلبت مني موظفة المحاسبة 2400 دولار، لم أعارض على المبلغ فقد ارتضيت بهذا الحكم، لكن لم أكن أملك سوى 400 دولار، عرضته عليها مقابل استلام الجثة، لكنها رفضت ذلك من دون الحصول على ضمانة من شخص يكفلني”.

طلبت موظفة المحاسبة من البعريني الاتصال بأحد وجهاء بلدته فنيدق، إلا أنه لم يكن على السمع، عندها كما يقول لموقع “الحرة” “سألتني عن نوعية السيارة التي أمتلكها، عارضة عليّ رهنها، وبعد أن نفيت بداية أني أملك مركبة عدت وسلمتها مفتاحها، فخرجتْ من المكتب، اعتقدت أنها تريد إقفالها، وإذ بطبيب كان يمر في المكان، سألَتْه بكم يثّمنها، فكان جوابه بألفي دولار وما دون”.

عاودت الموظفة الدخول إلى المستشفى، سلّمت المفتاح لزميلتها طالبة منها إعطاء البعريني ورقة تسليم جثة ابنه، على أن تعاود تسليمه المفتاح بعد تسديده بقية المبلغ، عندها سألها البعريني كما يقول “كيف سأنقل ابني إلى البلدة”، ليصدم بجوابها “دبّر حالك”، فسار به إلى الطريق العام، قبل أن يصعد في سيارة أجرة.

يعجز 93 بالمئة من اللبنانيين عن تسديد كلفة الطبابة والاستشفاء، بحسب ما سبق أن أعلنه مدير “الدولية للمعلومات” جواد عدرا، في تغريدة عبر حسابه على “تويتر”، كما سبق أن أشارت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، في تقرير أصدرته في سبتمبر من العام الماضي إلى أن نسبة الأسر المحرومة من الرعاية الصحية ارتفعت إلى 33 في المئة كما ارتفعت نسبة الأسر غير القادرة على الحصول على الدواء إلى أكثر من النصف.

القضية أمام “التأديبي”

يعمل حسين حارسا في ثانوية فنيدق الرسمية، التي ورثها وأشقاؤه الثلاثة عن والده، لكنها مؤجرة منذ عام 1979 للحكومة اللبنانية، بمبلغ 18 مليون ليرة سنوياً، أي ما يعادل حوالي 440 دولار حالياً، يتم توزيعه على الأشقاء الأربعة، أما راتبه الشهري من صندوق المدرسة فمليون و700 ألف ليرة.

وفيما إن كان لدى حسين أي تغطية صحية أجاب “نعم، من الضمان الاجتماعي، فالمبلغ الذي طلبته المستشفى هو فرق الضمان، مع العلم أني دفعت 8 ملايين ليرة بعدما وضعت زوجتي ابني، كما أني كنت أجلب له الحفاضات والحليب والأدوية وكل ما تطلبه المستشفى من حسابي الخاص”.

بعد ما اختبره في المستشفى، توجّه أقارب حسين إلى المستشفى وسددوا كامل المبلغ، رافضين كما يقول استعادة السيارة التي لم تكن موجودة أصلاً في المكان الذي كانت مركونة فيه، “وذلك كرد اعتبار لنا”.

في المقابل، أكد رئيس مجلس إدارة مستشفى خلف الحبتور، الدكتور ربيع الصمد، أن “البعريني هو من عرض على موظفة المحاسبة ترك مفتاح سيارته لحين تأمين المبلغ المترتب عليه وهو 2400 دولار بدل 25 يوم أمضاها طفله في الانعاش، مع العلم أن جمعية تكفلت بدفع 350 دولار فبقي 2050 دولار من المبلغ، وطوال هذه المدة لم يتحرك أو يهتم لتأمينه، وما أقدمت عليه موظفة المحاسبة التي تجمعها معرفة مسبقة بالبعريني خطأ، حيث اعتبرت أن الأخير يريد التذاكي عليها لا سيما بعدما رفض الإمضاء على تعهد بالدفع، لكن كان عليها أن تأخذ موافقة الإدارة”.

تمت معاقبة الموظفة من قبل مجلس إدارة المستشفى، بحسب ما يقوله الصمد، مشددا، في حديث لموقع “الحرة”، على أنه “حاولنا تصحيح الخطأ بسرعة، فما إن علمت مديرة المستشفى وأنا بالموضوع، حتى سارعنا واتصلنا بالبعريني، أدينا واجب العزاء طالبين منه الحضور لأخذ مركبته”. كما تحركت وزارة الصحة وفتحت تحقيقاً بالقضية بحسب ما يؤكده مدير العناية الطبية في وزارة الصحة الدكتور جوزيف الحلو، مشيراً في حديث لموقع “الحرة” إلى أنه “تم تحويل الموظفة إلى المجلس التأديبي”.

ويلفت رئيس مجلس إدارة مستشفى الحبتور إلى أن “المستشفى قامت بواجبها كاملاً بعلاج الطفل الذي ولد بمشاكل خلقية، ولو أنه كان يتلقى العلاج في أحد مستشفيات العاصمة لكان المبلغ المترتب على والده لا يقل عن 600 إلى 700 دولار في اليوم”، لافتاً إلى أنه “لم يكن ليصل الموضوع إلى هنا لو تواصل معي أحد وجهاء بلدة البعريني”.

معاناة عامة

بعد انتشار صورة حسين على مواقع التواصل الاجتماعي، طلب رجل الأعمال الإماراتي، خلف الحبتور، من إدارة المستشفى “المستقلة والمسؤولة أمام الله والناس” توضيح ما حصل، داعياً، في منشور عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، “الله أن يسكن روح هذا الطفل الرضيع الملاك فسيح جناته ويلهم أهله الصبر والسلوان”.

وأضاف “مع أننا ندعم مستشفى خلف الحبتور في حرار لخدمة أهلنا في عكار، إلا أننا نرفض أي تصرّف يُبَدّي المصلحة على المواقف الإنسانية”.

واستهجن صندوق الزكاة في لبنان الذي حصل، قائلاً في بيان، إن “مستشفى الحبتور الذي تبرع ببنائه وتجهيزه المحسن خلف أحمد الحبتور والذي أشرف عليه ويرعاه الصندوق يدار حالياً استثمارياً من القطاع الخاص، وهو يستهجن ما حصل مع والد الطفل الرضيع المتوفى رحمه الله، وفور علمه بهذا الأمر قصد المدير العام للصندوق الشيخ زهير كبي وبتوجيه من سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان، ومن رئيس مجلس الأمناء النائب الاستاذ نبيل بدر، المستشفى واطلع على حقيقة وخلفيات الاشكال الحاصل، وسوف يرفع التقرير اللازم ليتم أخذ القرار المناسب”.

كما سارعت إدارة مستشفى خلف الحبتور-حرار إلى إصدار بيان، أكدت خلاله أن “مجلس الإدارة بكامل أعضائه لم يتعامل يوماً بأخذ مستحقاته بطريقة غير إنسانية، وقد مرّ على عملها 7 سنوات وكانت دائماً تقف إلى جانب المحتاج والمريض”.

“عدد كبير من اللبنانيين لا يمكنهم دخول المستشفى لتلقي العلاج بسبب وضعهم الاقتصادي وعدم قدرتهم على دفع الفاتورة الاستشفائية، ومنهم من يضطر إلى دخول المستشفى من دون أن يتمكن من تأمين المترتب عليه، كما أن عدداً كبيراً من الجهات الضامنة توقف عن تغطية المرضى، من هنا ترفض المستشفيات استقبال هؤلاء إلا على حسابهم الخاص وبالتالي تقع الإشكاليات”، بحسب ما يؤكده نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة، سليمان هارون، قائلا، في حديث لموقع “الحرة”، “للأسف هذا واقع نعيشه، فالمريض والمستشفيات يعانيان على حد سواء، الوضع ازداد سوء هذا العام، وسبق أن نبّهنا من ذلك”.

“خدمات عامة عديدة في لبنان شهدت تدهوراً سريعاً بسبب ارتفاع تكاليف تشغليها (نتيجة لانخفاض قيمة الليرة وضرورة الدفع للموردين بالدولار الأميركي أو بأسعار مضخّمة)، وكذلك بسبب الزيادة السريعة في الاحتياجات الاجتماعية مع عدم تحمل أسر عديدة تكاليف الخدمات من القطاع الخاص”، بحسب ما سبق أن أكده مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان، البروفيسور أوليفييه دي شوتر، في بيان بعد زيارته لبنان في نوفمبر 2021.

وشرح المقرر الأممي أن “بعض المرضى، الذين لربما اختاروا الخدمات الصحية في المستشفيات الخاصة في الماضي، لجأوا إلى المستشفيات العامة التي عصفت زيادة الطلب بإمكاناتها، وحتى الطبقة الوسطى التي لديها بعض الودائع المصرفية لا تستطيع سحب هذه الودائع، وتعاني، مثل بقية السكان، من انهيار الخدمات العامة”.

البحث عن بديل

رغم الانقسام الحاد، والمعارضة الشديدة من التيار الوطني الحر، تمكّنت حكومة تصريف الأعمال اللبنانية من تأمين النصاب وعقد جلسة مطلع الأسبوع الحالي، أصدرت خلالها مرسوم توزيع الاعتمادات المخصصة للمعالجة في المؤسسات العامة والخاصة على نفقة وزارة الصحة العامة، عن ذلك شرح هارون “جرى تصديق العقود بين وزارة الصحة والمستشفيات لكي يتم دفع المستحقات عن سنة 2022، ونحن بانتظار أن تدفع وزارة المالية المترتب على وزارة الصحة، حيث أصبح بإمكانها من الناحية القانونية القيام ذلك، لكن الآليات تتخذ وقتاً”، مشدداً “طوال هذا العام لم تقبض المستشفيات فلساً واحداً من الوزارة وهذا أحد أسباب معاناتها”.

في ظلّ معاناة نحو 80 في المئة من السكان في لبنان من الفقر، لم يعد بإمكان كثير من العائلات الانتقال حتى إلى المرافق الصحية للحصول على الرعاية الصحّية الأولية لأطفالها، بحسب تقرير لليونيسف صدر في شهر أبريل، مضيفاً “إن تأزّم الوضع الاقتصادي العالمي – وما نتج عنه من ارتفاع في الأسعار وزيادة في التضخم – يؤدي إلى تفاقم الأزمة الكارثية في لبنان، وبالتالي ازدياد التداعيات الخطيرة على صحة الأطفال”.

الوضع الصعب الذي يمر به اللبنانيون وعدم قدرة غالبيتهم على دخول المستشفيات، دفع بالعديد منهم إلى اللجوء لمواقع التواصل الاجتماعي لعرض حالتهم، وكلهم أمل أن يجدوا من يمد لهم يد المساعدة كي يتمكنوا من تلقي العلاج، ويحاول عدد من الناشطين المساعدة في هذا المجال، منهم الناشط طارق أمون من “تجمّع شباب إيزال”، الذي يستمر في عرض الحالات مستنداً كما يقول “على المغتربين لا سيما في أستراليا والسعودية وقطر، الذين لا يتوانون عن الوقوف إلى جانب أهلهم في لبنان، وإن فضّل البعض منهم في الآونة الأخيرة التركيز على مساعدة أقاربه فقط”.

ولتفاعل المغتربين مع المرضى من أبناء وطنهم، يعرض أمون بعض الحالات عبر تقنية البث المباشر، آخرها لطفل يحتاج إلى جهاز في الرأس بتكلفة 5200 دولار، فتمكن من جمع المبلغ قبل إغلاق البث، ويقول لموقع “الحرة”، “إن كنا نساهم في مساعدة عدد بسيط من الحالات إلا أن العدد الأكبر من المرضى ينتظرون الفرج، لا بل في بعض الأحيان يفضّلون الموت لكي يستريحوا من آلامهم ومعاناتهم”.

يتحدث أمون عن الأرقام الخيالية التي تطلبها المستشفيات، سواء بالدولار الفريش أو ما يعادله بالليرة اللبنانية على سعر السوق السوداء، ما دفع البعض إلى البحث عن مخارج أخرى كإجراء العمليات البسيطة في العيادات الطبية، منهم كما يقول “قريبي، حيث طلبت منه المستشفى 45 مليون ليرة بدل عملية، إلا أنه فضّل إجرائها في العيادة بمبلغ 300 دولار أي حوالي 12 مليون ليرة”.

سبق أن أشارت منظمة “أطباء بلا حدود”، إلى أنها تشهد “ارتفاعاً ملحوظاً في عدد الأشخاص الذين يقصدون عيادتنا في عرسال والهرمل وهم يعانون حالة حرجة تتطلب رعاية استشفائية”.

وأضافت في بيان في شهر يوليو الماضي أن “الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ووزارة الصحة العامة غطيا رسوم المستشفيات في لبنان إلى حد كبير، بحسب الوضع الوظيفي للمريض والمعايير الطبية. في الغالب، غطت هذه المساهمات بين 85 و90 في المئة من التكاليف، بينما دفع المريض النسبة المتبقية. لكن في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية، لا يغطي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ووزارة الصحة العامة الآن سوى جزء بسيط من التكاليف الفعلية”.

ألقت الأزمة بظلالها على الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ووزارة الصحة العامة، فأمسيا يعانيان بدورهما على المستوى المادي، ما حال كما قال نائب المنسق الطبي في “أطباء بلا حدود” فرح ناصر، “دون تمكنهما من المساعدة بصورة أكبر. ففي الوقت الحالي، تُحدد رسوم المستشفى بحسب القيمة الحالية للعملة المحلية في السوق، في حين ما زال صندوق الوطني للضمان الاجتماعي ووزارة الصحة العامة يقدمان المساعدة بحسب قيمة العملة قبل الأزمة، فيضطر المريض إلى تحمل نحو 90 في المئة من النفقات الفعلية”.

وشدد “حتى لو تمكن المرضى من دفع رسوم المستشفى، فإن العاملين الصحيين المتمرّسين يغادرون لبنان بأعداد كبيرة، تاركين المستشفيات من دون عدد كافٍ من الموظفين. وبعدما هاجر أكثر من 30 في المئة من العاملين في المجال الصحي، اضطر العديد من المستشفيات إلى تقليص خدماتها، مما أثر على جودة الرعاية التي توفرها”.

حال حسين كحال عدد كبير من المواطنين الذين يعانون في مستشفيات لبنان، ويشدد على أن “كل ما أطلبه هو مراعاة الشعب الفقير وهذه أبسط الأمور، فأنا أملك سيارة لرهنها، لكن ماذا يفعل من ليس لديه ما يرهنه؟”.

Follow Us: 

أسرار شبارو – الحرة

Leave A Reply