سعد الله ونوس: والتحولات السياسية في العالم العربي

تسعى الأكاديمية والكاتبة السلوفينية كاتارينا بيسكوفا في هذه الدراسة التي تقدم ترجمتها عن الأصل الإنكليزي إلى سبر عوالم الكاتب المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس في الإبداع والكتابة. وترصد الكاتبة التي تعمل باحثة في الأكاديمية السلوفينية للعلوم وأستاذة في قسم الدراسات الشرقية في جامعة كومينيوس براتيسلافا، من خلال قراءة عميقة، المحطات الرئيسة في تجربة الكاتب الراحل، والتحولات التي طالتها بتأثير التطورات المأساوية للأحداث في العالم العربي.

النص

ولد سعد الله ونوس في قرية حصين البحر في شمال محافظة طرطوس لأسرة علوية. ورغم تواضع وفقر أسرته، نجح في الحصول على شهادة البكالوريا؛ ما أهله لمتابعة دراساته العليا في الصحافة في القاهرة. وقد نهل أثناء دراسته من عيون الأدب، خصوصا في جنس المسرح وترجمات لأعمال أدبية غربية، ونذكر تخصيصا جان بول سارتر وأوجين أونيل ووليام سارويان. وسرعان ما وقع تحت تأثير التيارات الميتافيزيقية والوجودية والرومانسية. وقد شاهد في الآن نفسه بعض عروض المسرح المصري، واقتباسات من مسرح صمويل بيكيت وأوجين يونيسكو. وعلى الرغم من شروعه في الكتابة أثناء مقامه في القاهرة، فقد تكثف نشاطه بعد عودته إلى سوريا عام 1963. وكتب في غضون السنوات الثلاث اللاحقة سبع مسرحيات مستلهمة من المسرح العبثي والوجودي. كانت أعماله الأولى أكثر تأثرا يتوفيق الحكيم وتجربته في مسرح الذهن المشبع بالرمزية، والمهموم أكثر بالتطور التدريجي للأفكار، وعرض الفعل الخارجي للشخصيات. وقد اعترف ونوس كما فعل من قبله الحكيم بأنه كان يكتب المسرحيات لكي تقرأ. وسوف يستنتج لاحقا رغم ذلك أن كون المسرح حدثا اجتماعيا، فإن النص المسرحي يستلزم بغية اكتماله أن يتحقق فوق الركح.

كتب رغم ذلك مقالة عن توفيق الحكيم بعنوان «توفيق الحكيم ومسرح اللامعقول» عام 1964 في مجلة «المعرفة» التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة السورية، والتي كان يشرف فيها على الصفحة النقدية والأدبية. وقد قرر لاحقا السفر إلى باريس كي يتعرف ويتآلف أكثر مع المسرح الأوروبي. وتابع دراسته في معهد الدراسات المسرحية التابع لجامعة السوربون حيث أغنى معرفته بالأدب الأوروبي والحركات والمدارس المسرحية، وتمكن من نسج علاقات شخصية مع العديد من الممثلين والمخرجين المسرحيين، من قبيل بيرنار دورت وجان ماري سارو وجان لوي بارو وبيتر وايس، بعد أن أتيحت له الفرصة لقراءة ومشاهدة عروض مشاهير كتاب المسرح عبر العالم، لكنه كان يجد انجذابا خاصا لأعمال أروين بيسكاتور وبرتولد بريشت، الذي سيكون له تأثير لاحقا في تصوره الإجمالي للفعل الدرامي. كانت إقامته في باريس حاسمة، ليس فقط في تطوره الفني باعتباره كاتبا مسرحيا، وإنما في تصوراته الفلسفية والاجتماعية والسياسية، التي أصبحت أكثر وضوحا. وقد انتهى به الأمر الى تبني الاشتراكية. وبعد هزيمة العرب عام 1967 التي شكلت صدمة بالنسبة إليه سيكتب ونوس عمله المسرحي الشهير «حفلة سمر من أجل خمسة حزيران» التي سعى من خلالها الى الكشف عن الأسباب التي يمكن عدها مسؤولة عن أفدح هزيمة حاقت بالعرب من لدن إسرائيل. وكانت محصلة هذا النقد المفتوح والجريء للحكومة السورية، أن تحويل هذا العمل الى عرض مسرحي ظل مرفوضا إلى حدود عام 1971. كانت هذه المسرحية مستهل مشروعه المتمثل في مسرح التسييس، الذي تمثلت غايته في تشجيع وتحفيز الجمهور على الانخراط الحر في النقاش حول القضايا الاجتماعية والسياسية، وتعلم التمييز بين الأكاذيب والزيف الذي تروج له الحكومة ووسائل الإعلام والحقيقة البدهية، التي تشكل في نظر ونوس العتبة الرئيسة لتغيير الواقع القاتم. وخلال سنوات 1971- 1974اشتغل ونوس صحبة صديقه عمر أميرالاي (1944- 2011) على فيلم وثائقي «الحياة اليومية في قرية سورية». وقد سعيا في هذا الفيلم إلى رصد ظروف العيش الشاقة للقرويين البؤساء في هوامش البادية السورية، وتخصيصا في قرية المويلح. سيحقق الفيلم نجاحا ساحقا في العديد من الأقطار وسيتم ترشيحه للمشاركة في مهرجانات سينمائية أوروبية. لكن عرضه سيظل محظورا داخل سوريا بقرار من الحكومة. ويعزى السبب حسب ونوس إلى أن الأفلام السينمائية أصبحت تدريجيا أكثر تأثيرا من الأدب والمسرح، علاوة على قدرتها على الوصول إلى شرائح اجتماعية واسعة من المجتمع وضمنها الأمية. كان من شأن اكتشاف الجمهور لهذا النقد الصريح والمفتوح لفشل الحكومة في تحسين الظروف المعيشية الصعبة وعزوفها عن تحمل مسؤوليتها في ما آلت إليه من عواقب وخيمة، أن يثير الاحتجاجات في صفوف الجماهير، أو ما هو أسوأ. وهذا ما كانت تخشاه الحكومة.

توقف ونوس عن الكتابة بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 لعقد من الزمان. وأصيب باكتئاب شديد، وعندما عاود الكتابة من جديد عام 1989 تخلى عن مشروع التسييس وركز اهتمامه على مصير الفرد وظروفه الاجتماعية. ذلك أنه استنتج للمرة الأولى أن المشاكل الفردية ليست سطحية للطبقة البورجوازية، كما اعتقد ذلك لفترة طويلة. وعلى امتداد حياته التي اختتمت بالمرض كتب ونوس أكثر من عشرين مسرحية والعديد من الأبحاث حول المسرح، وعمل في الملحق الثقافي لجريدة «البعث» السورية وفي «السفير» اللبنانية. وأسس في عام 1977 مجلة «الحياة المسرحية» كما أسس تجربة مسرحية عام 1976 أطلق عليها اسم مسرح القباني. وقد أسهم بالإضافة الى ذلك في تأسيس المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق.

تميزت المرحلة التي عاش فيها ونوس بالتحولات السياسية والاجتماعية المأساوية التي عاشها الشرق الأوسط، ولم تكن سوريا استثناء. وبعد تفكك الإمبراطورية العثمانية عقب نهاية الحرب العالمية الأولى وتأسيس دول جديدة وجدت سوريا نفسها تحت الانتداب الفرنسي. وقد خاضت البلاد صراعا من أجل التخلص من هذا الانتداب غير المرغوب فيه، والذي لم يكن يختلف الا قليلا عن الاحتلال. وهكذا وقعت كل البلدان معاهدات الاستقلال والتي سرعان ما رفضتها الحكومة الفرنسية عام 1936 وسيستمر الصراع لعشر سنوات أخرى. وبعد سلسلة من الأحداث المعقدة تمكنت سوريا من انتزاع حريتها في الأخير وحمل الفرنسيين على الرحيل عام 1946. وجدت البلاد نفسها بعد ذلك في غمرة أزمة سياسية. وقد عرفت تعاقب أزيد من عشرين حكومة في الفترة ما بين 1946 و1970. وهو ما أفرز عدم استقرارا سياسيا لفترة طويلة. وبصرف النظر عن عجز كبار الضباط السوريين الطموحين عن الاضطلاع بأي دور في البلاد، أو الكف عن التدخل في الشأن الداخلي فإن أحد العوامل التي تسببت في هذه الأزمة تتمثل في صراع القوى الاستعمارية الكبرى. ينضاف إلى ذلك الفروق الدينية والاجتماعية والاضطراب الذي يسم الوضعية الاجتماعية للبلاد.

ظهرت إلى الوجود عام 1948 إسرائيل بوصفها دولة يهودية في سياق جغرافي عربي خالص؛ وهو ما أثر بعمق في ساكنة المنطقة. اتفق كل العرب على نعت ما حدث بالنكبة، بيد أنها مثلت بالنسبة لسوريا صفعة مدوية، سوريا التي كانت تحتفظ بأواصر قربى بالفلسطينيين والبلدان الأخرى في المشرق العربي. ولأنهم يتقاسمون تاريخا مشتركا وطويلا، فإنهم يعتبرون هذا التقسيم إلى دول منفصلة مصطنعا ويؤثرون اعتبارها جزءا من سوريا الكبرى أو بلاد الشام. سعت سوريا إلى تجسيد القومية العربية بإعلانها وحدة كانت ذات أمد قصير مع مصر في ما عرف بالجمهورية العربية المتحدة (1958 – 1961). غير أن هذه التجربة باءت بالفشل الذريع وأصابت المتعاطفين مع القومية العربية وضمنهم سعد الله ونوس الذي كان يدرس حينها في جامعة القاهرة بخيبة أمل كبيرة. وقد كتب بعد فترة قصيرة من نهاية هذه الوحدة أولى مسرحياته»الحياة أبدا» 1961التي لم تنشر قط طيلة حياته. وسوف يعمد لاحقا إلى استبعاد كل المسرحيات التي كتبها قبل «حفلة سمر من أجل خمسة حزيران» بدعوى عدم اكتمالها ونضجها.

بيد أن نقطة التحول الحاسمة حمت مع حرب الأيام الستة عام 1967 حين دمر الجيش الإسرائيلي كل الجيوش العربية في ستة أيام فقط، واحتل الضفة الغربية والقدس الشرقية وشبه جزيرة سيناء وقطاع غزة ومرتفعات الجولان. لم تكشف السهولة التي تمكن بواسطتها الإسرائيليون من كسب الحرب قوة الجيش الإسرائيلي فقط، وإنما كشفت عدم جاهزية الدول العربية وعرّت حدود قدرتهم على الفعل السياسي. وكما كتب البير حوراني فإن «الحرب خلفت أثرا في كل شخص في العالم يعرف نفسه بأنه يهودي أو عربي». تعرّض كل العالم العربي لصدمة بتأثير التحولات غير المتوقعة التي شهدتها الأحداث. لم تكن الحرب بالنسبة للعديد من العرب مجرد هزيمة، وإنما إدانة أخلاقية.

ما غاب عن علم الشعوب العربية أن حافظ الأسد الذي سيصبح لاحقا رئيسا لسوريا، والذي كان حينها وزيرا للدفاع، كان على علم بعدم جاهزية الجيوش العربية للقتال بسبب تجهيزها بأسلحة قديمة وذات جودة هابطة. والأدهى من ذلك أن الجيش السوري كان حينها خاضعا للولاءات الطائفية، وسياسات التطهير فيما كان الجنود المصريون يشاركون في الحرب الأهلية التي كانت تدور رحاها في اليمن. بذلت القيادات العربية قصارى جهدها كي تتفادى المواجهة مع إسرائيل، لكن الضغط كان قويا. وبسبب عزوفه عن مساعدة السوريين ضد الهجمات المتكررة للإسرائيليين، فإن عبدالناصر الذي كان ينظر إليه في العالم العربي بوصفه بطلا، اتهم بخيانة القيم والمثل التي ناضل من أجلها، والتخلي عن إخوانه السوريين في وقت الحاجة. وقد عمد كي يحفظ ماء وجهه إلى اتخاذ إجراءات كان يدرك أنها لن ترقى إلى المواجهة الحربية. وقد سعى عبد الناصر بمهارة إلى استغلال الإذاعة والصحافة لكسب الحشود بواسطة بلاغته الخطابية والكاريزما الشخصية. وقد تحولت إذاعة صوت العرب إلى واحدة من أنجع وسائل الدعاية للنظام، بسبب قدرتها على التأثير في كل الشعوب العربية.

قال ونوس في معرض حواره مع فؤاد دوارة: كانت كارثة 1967 بالنسبة لنا كبيرة وعصية على الوصف. وقد اعترف في السياق ذاته بأنه قضى الشهور التي أعقبتها في حالة اكتئاب عميق وما يشبه الغيبوبة. كان ونوس أعجز ما يكون عن تصديق قدرة الإسرائيليين على هزم سوريا ومصر والأردن في طرفة عين. وقد عبر عن ذلك في الفيلم الوثائقي الذي أخرجه عمر أميرالاي «وهناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء»: كانت هزيمة 1948 نتيجة للخيانة والأسلحة الفاسدة، ولم تكن أبدا بسبب عجز الجندي العربي عن القتال وتفوق الجيش الإسرائيلي. ويضيف قائلا: الأدهى من ذلك أنهم زرعوا في عقولنا فكرة أن الجندي الإسرائيلي رعديد وجبان وغير قادر على المواجهة، وأنه يمكن هزم إسرائيل في أي لحظة.

 

القدس العربي

Leave A Reply