أمير تاج السرّ*
كنت وما زلت من الذين يحبون القراءة والقراء بصورة كبيرة، أرتاد أحيانا مواقع القراءة على الإنترنت، وربما أكتب انطباعا عن كتاب أعجبني ووجدت فيه ما يجب تقديمه للقارئ. أيضا اعتدت وبصورة متواصلة على الاطلاع على مسودات بعض الأصدقاء بصفتي قارئا لا أكثر، وإبداء آراء هي في النهاية الآراء التي قد يبديها أي قارئ عند كتابة مراجعته لكتاب ما.
ما لفت نظري في ذلك النشاط، هو التفاوت الكبير في الخبرة القرائية بين القراء أنفسهم، بمعنى أن هناك قراء يكتبون مراجعات غاية في الوعي، ويستنتجون دلالات مختبئة داخل الأعمال الإبداعية، وربما يقنعون الكاتب نفسه، بمعنى قد لا يكون خطر بباله أثناء الكتابة، وهناك من يعجبهم الترميز، ويفكرون دائما أن وراء كل رواية حديثة رموزا تحتاج إلى تفكيكها، وشيفرة لا بد من أن تحل حتى لو كانت الأحداث في الرواية، هي أنفاس متلاحقة خلف قصة حب لا تريد أن تكتمل، أو سيرة حياتية واضحة، عاشها الكاتب ووضح قبل كل شيء أنه عاشها. وكنت قد لاحظت ذلك في سيرة لي، أو حقيقة، جزء من سيرة، حيث خرج منها بعض القراء بمعان أعجبتني جدا، على الرغم من أنني لم أكن أقصدها، ولأن العمل الأدبي في النهاية، شراكة بين كاتب وقارئ، أو بين كاتب ومتلق، فإن للمتلقي ذلك الحق في التوغل داخل نصفه المتاح من دون حرج.
على نقيض آخر، يوجد قراء لا يملكون أي خبرة، أي لم يكتسبوا أي خبرة قرائية على الرغم من أنهم، كما يذكرون دائما، قرأوا آلاف الكتب، وكتبوا مراجعات لمئات منها، أحيانا أفكر أن هناك من لا يقرأ حقيقة، وكتبت مرة عما سميته القراءة المغشوشة، تلك التي يكتب فيها الناس مراجعات عن أعمال لم يقرأوها قط، وإنما جمعوا معطيات المراجعات من هنا وهناك وكتبوها، ومؤكد أن الذي يكتب في مراجعته أن الكاتب كان ضابطا في جهاز الأمن وتقاعد، وكتب هذه القصة، لا يملك أي خبرة، لأن بطل القصة هو من كان ذلك وليس الكاتب، وكثيرون يظنونني مدرسا للرياضيات، ويراسلونني بهذه الصفة، لمجرد أن هناك كاتبا روائيا في بعض قصصي، كان مدررسا للرياضيات.
أيضا قرأت مرة مراجعة طريفة، عن إحدى الروايات المترجمة، وفيها يذكر القارئ، أنه سيبحث عن الكاتب ويؤنبه في أقرب زيارة لبلده، لأنه قام بتصرفات مسيئة كثيرة، وهنا ثمة خلط بين الكاتب وإحدى شخصيات الرواية، والكاتب نفسه كان قد رحل منذ سنوات طويلة.
في النهاية، المبدع لا يريد قارئا عبقريا يشاركه تأليف النص، هي فقط تلك الشراكة المفترضة، فالإنسان يكتب لأنه أحب الكتابة، وتجذرت في دمه، والإنسان أيضا يقرأ لأنه أحب القراءة ومتعتها.
من الروايات التي تحتاج لخبرة في قراءتها، تلك التي تتشابك في أجزاء منها بشيء من سيرة الكاتب، ولا يعني أنها سيرة الكاتب، ولكن تم تصنيع مادة منها، مأخوذة من أشياء يعرفها الكاتب وخبرها أثناء نشأته، مثلا حين تكتب عن بيت في النص، وتستعيد أوصاف البيت الذي كنت تقطنه في الطفولة، تكتب عن مدينة ما، وفيها مواصفات مدينتك التي تعرفها، وربما تكتب عن شخوص معينين، فيهم ملامح من شخوص التقيت بهم، أو عشت معهم ذات يوم، لكنهم ليسوا هم. القارئ الخبير في هذه الحالة، يعرف صنعة الكتابة، وشريك حقيقي فيها، هو يدعم الكاتب بفهمه، ونقل الفهم للآخرين، بعكس القارئ غير الخبير، أو القارئ المغشوش، فهو يربك الآخرين بمراجعة لم يكن ثمة داع لها، لأنها لا تقدم شيئا.
ومن الأشياء التي استغربت لها حقيقة، الخلط بين اسم الكتاب واسم المؤلف، على الغلاف الأمامي، وقرأت مرات عدة مراجعات يذكر فيها اسم الكاتب بوصفه عنوان الكتاب، وعنوان الكتاب الذي قد يكون: سحابة ماطرة، أو تلك الأيام، مثلا، بوصفه اسما مستعارا للكاتب، ويتساءل كاتب المراجعة: ما الاسم الحقيقي للكاتب: سحابة ماطرة؟
ما ذكرته سابقا، عن عدم خبرة القراءة، يمكن التجاوز عنه، باعتبار أن القارئ حتى لو كان بلا خبرة، أو لم يقرأ أي شيء وأدلى بدلوه بلا قراءة، مكسب للكتابة، قد يتطور ذات يوم، ويصبح مكسبا كبيرا، وقد لا يتطور، ويظل مكسبا عاديا، سيكتب تلك المراجعات غير المكتملة، ولكن أيضا تشير إلى كتاب ما.
لكن ما لا يمكن التجاوز عنه، هو عدم خبرة القراءة، أو عدم القراءة أصلا من صحافيين عاملين في الحقل الثقافي، يتواجدون في مواقع وصحف تهتم بهذا الشأن، ويطرحون الحوارات على المبدعين، من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء قراءة كتاب واحد حتى، لكاتب أو شاعر يودون محاورته، هم سجناء داخل أسئلة معدودة وعامة ومكررة، تطرح باستمرار، والمبدع يلهث في الإجابة عنها، في البداية بحرارة ثم بفتور، ويصل في النهاية إما إلى إهمالها، أو نسخ ولصق إجاباته من حوارات أخرى، وكان قاسيا جدا أن يرسل لي أحد حوارا يبدأه بسؤال عن سبب انقطاعي عن الكتابة منذ عشر سنوات، ولا يعرف أن هذه السنوات العشر، كانت أخصب سنوات حياتي، حيث أنتجت فيها الكثير.
هناك صحافيون قد يكونون يعرفون الكاتب، وقرأوا له بعض النصوص، لكن أيضا يحومون في فلك الأسئلة المستهلكة مثل سؤال المهنة والكتابة، وبالنسبة لنا نحن السودانيين، سؤال الطيب صالح وحجبه لنا، وأزعم أن كل كاتب سوداني سئل هذا السؤال، وأظنه سيظل سؤال الكتاب السودانيين الخالد، من ساعة ولادتهم حتى مماتهم.
في النهاية، المبدع لا يريد قارئا عبقريا يشاركه تأليف النص، هي فقط تلك الشراكة المفترضة، فالإنسان يكتب لأنه أحب الكتابة، وتجذرت في دمه، والإنسان أيضا يقرأ لأنه أحب القراءة ومتعتها، وما يمكن أن يوجد فيها من معرفة، فقط لنراع بعض الثوابت في تلك الشراكة، وبالنسبة للصحافة الثقافية، الأمر يظل إجباريا، أن تقرأ أحدهم أولا وتعرف من هو، قبل أن تلاحقه بحوار، لن يفيد في شيء.
*كاتب سوداني
المصدر: القدس العربي